في التاسع عشر من شهر آذار مارس من كل عام تعيش مدينة فالنثيا فالنسيا ليلتها الكبيرة، وهي الليلة التي تحرق فيها المدينة مجهود عام كامل من الفن، فتسطع السماء بألسنة اللهب المنزلقة من عشرات الحرائق التي تأكل التماثيل الفنية المصنوعة من الورق المقوى والشمع، والتي كانت تثير السياح وابناء المدينة بما تحمله من معان، وتلمع العيون بدموع الوداع، وداع تلك التماثيل التي تسقط فريسة للهب بعدما كانت ملء العيون والقلوب طوال اسبوع كامل. وباتت هذه الاحتفالات جزءاً من التكوين النفسي لأبناء مقاطعة فالنسيا الاسبانية، التي تعيش بحكم الجغرافيا على شواطئ المتوسط، وتاريخياً بين ممالك الموحدين الاندلسيين والمملكة الفالنثية التي شهدت تمرد "السيد القمبيطور" كما كان يطلق عليه العرب، او "الثيد الكامبيادور" وفق الاسطورة التي تحكيها الروايات الاسبانية. احتفالات "الماء والنار" التي تشهدها مدينة فالنسيا منذ القرن الخامس عشر تقريباً، مثلها ككل الطقوس التراثية الشعبية، لا يستطيع احد ان يؤكد متى بدئ في اقامتها، ولا متى بدأوا يطلقون عليها اسم "لاس فاياس". احتفالات تصنع فيها دمى يطلق عليها اسم "نينوت" يتم حرقها منتصف ليلة التاسع عشر من آذار من كل عام، وهي ليلة الاحتفال بعيد سان خوسيه القديس يوسف، الا ان الوثائق التي عثر عليها حول هذه الظاهرة الطقوسية، تشير على انها كانت معروفة كظاهرة احتفالية منذ منتصف القرن الرابع عشر الميلادي، اي مع نهاية العهد الاسلامي في الاندلس وبداية الحقبة المسيحية الكاثوليكية التي اعقبت سقوط غرناطة، وان كانت هناك بعض الروايات التي تعود بتاريخ هذا الطقس الى العهد العربي قبيل القرن العاشر الميلادي بقليل. وأول احتفال رسمي رئيسي اقيم في مدينة فالنسيا طبقاً لتلك الوثائق كان عام 1355، الا انه كان احتفالاً محدوداً بقي على محدوديته ولم يتخذ شكله الشعبي العام حتى نهاية القرن الرابع عشر، وهو الوقت الذي تحولت فيه الاحتفالات لتأخذ طابعاً عاماً اكثر شهرة ورمزية، قبل ان تمتد شهرتها الى مناطق اخرى مجاورة، حتى صارت احتفالاً وطنياً عاماً، تضعه المؤسسات السياحية الاسبانية على قائمة خريطتها السياحية، لقدرته على جذب ما يزيد عن مليوني سائح سنوياً من اسبانيا وخارجها. كلمة "لاس فاياس" نفسها هي تعريب على لاتينية، انتقلت الى العربية في شكل او آخر، وكانت تعني "الشعلة" التي كانت تستخدم في الاضاءة داخل الحصون والقلاع، واستخدامها بما تشير اليه بدأ في عهد الملك "خايمي الاول"، الذي سيطر على مدينة فالنسيا بعد انتزاعها من ايدي العرب، وهذه الشعلة كانت تستخدم ايضاً في انارة السجون التي ضمت الاسرى العرب الذين سقطوا في أيدي المسيحيين. لكن هناك نظرية تقول ان طائفة النجارين كانت تصنع "لا فايا" احتفالاً براعيها وقديسها سان خوسيه يوسف النجار، وان اصل هذا الاحتفال يعود الى عهود قديمة جداً، لأن يوسف النجار هو راعي مهنة النجارة. والاحتفال عبارة عن تماثيل من الورق المقوى وبعض العناصر الاخرى القابلة للاشتعال، يتم تشكيلها لتمثل شخصاً معيناً او يمكن ان تكون على هيئة تمثيلية، أي تمثل مشهداً معيناً، بعضها يتحرك طبقاً لميكانيزم خاص، وتقام الدمى على منصة منخفضة او طاولات توضع تحتها الاشياء القديمة القابلة للاشتعال السريع، وجوانب هذه المنصات مغطاة اما بورق مقوى مدهون او بأقمشة تخفيها عن المارة، وعلى هذه الجوانب ايضاً تكتب هنا كبعض الجمل والاشعار التي توضح المعنى الذي ترمز اليه الدمى. التماثيل الورقية ليست سوى مظهر من مظاهر هذه الاحتفالات، التي تحتوي ايضاً ألعاب المراجيح بموسيقاها التي تبقى في الذهن، والنزهات في الشوارع التي تبقى ارخص من امتطاء العربات والسيارات العامة. تشرف على هذه الاحتفالات لجان منظمة تتولى الاحتفال بالتمويل وتطرح الافكار على الفنانين الذين يقومون بابتكار الدمى. وتنظيم هذه اللجان دقيق للغاية، وشهد تطوراً مع تطور هذه الاحتفالات واتخاذها شكلاً قانونياً معترفاً به. وتبدأ هذه اللجان عملها منذ بداية شهر آذار لتنصب الدمى في ليلة الاحتفال بسان خوسيه القديس يوسف او قبلها في الليلة التي تسبق ليلة التاسع عشر من هذا الشهر التي تشهد حرق الدمى "لا كريما". وينحصر عمل اللجان في صرح الاموال سواء عن طريق التبرع او بطرح مزادات لبعض التبرعات العينية، او من خلال بيع قسائم من اوراق اليانصيب بين سكان الشارع او الحارة التي تعمل اللجنة في اطارها، ثم يقوم افراد اللجنة المنظمة بوضع الافكار الرئسية لشكل الدمى او الموضوع المحدد الذي يكون موضوع النقد وهدف السخرية لهذا العام، او يعمل افرادها مستشارين للفنانين الذين يكونون مسؤولين عن الجانب الابداعي في عملية اقامة هذه الدمى وتشكيلها. يزداد عدد الدمى في المدينة من سنة الى اخرى الى ان بات اليوم يناهز 80 مجموعة، كما اتسع نطاق الاحتفال الزمني ليمتد من يوم واحد الى اسبوع كامل، تقام خلاله الدمى في الشوارع ليشاهدها الجمهور اثناء ايام العرض وحتى يوم "الحريق". واتخذت خطوة جديدة لتوسيع دائرة اهتمام الجمهور بهذه الاحتفالات، اذ قررت اللجان المنظمة ان تقيم مسيرة كبرى لبعض الدمى الصغيرة الحجم يتم اختيارها من بين مشاهد دمى الاحتفال ووضعها في معرض خاص، ويتم التصويت الجماهيري العام عليها لاختيار احداها التي يتم العفو عنها لانقاذها من الحريق، ويكتب لها النجاة لتبقى رمزاً في المستقبل. أولى الدمى التي تم العفو عنها كانت عام 1934، وكانت تمثل "جدة عجوز ريفية وحفيدتها" وتم اختيارها من بين الدمى التي كانت مقامة في ساحة السوق. ولقيت هذه البدعة الجديدة معارضة من بعض الذين كانوا يرون ان هذه الدمى صنعت اساساً لتكون جزءاً من طقوس تعتمد في اول عناصرها على النار التي تلتهم الدمى كوقود لها. ولتقوية حججهم قالوا ان هذه الدمى مصنوعة من الورق والقماش ومادتها اعدت للحريق ويخشى عليها ان تبلى، خاصة في حال افتقاد الرعاية الخاصة التي يجب ان تتوافر لها للمحافظة عليها. ولم يقتصر التطور على هذه الخطوات التي تلاحقت مع الزمن، بل اصاب احتفالات "لاس فاياس" الكثير من التغيرات التي ادت الى دخولها ميداناً يقرب من الاحتراف، ومنذ تلك الفترة لم تعد الدمى والبارود هي سيدة الاحتفال، اذ اصبح هناك أبطال آخرون. الفنانون ينفذون هذه الدمى طبقاً لافكار لجان الاحتفال الخاصة وحسب رأيها، وأصبح عملهم يمتد امتداد العام نفسه تقريباً في وقت ارتفع عدد الدمى السنة الجارية الى اكثر من 200، اضافة الى عشرات الدمى الصغيرة الخاصة بالصغار. كما ازداد عدد الفرق الموسيقية المشاركة في الايام الثلاثة الاخيرة، مقدمة عزفها في الشوارع ومشاركة في المسيرات. واطلاق الصواريخ في الصباح وفي منتصف النهار من أهم طقوس هذا الاحتفال، اذ تطلق الالعاب النارية فتحدث ضجيجاً ودخاناً أبيض ورائحة محببة، وفي الليل تجري مرة اخرى معزوفة الالعاب النارية لتملأ السماء بالألوان. تساهم المرأة في الاعداد لهذه الاحتفالات في فترة مبكرة من السنة، حيث تشارك الفتيات في الاحتفالات في شكل فاعل، من خلال ارتداء الملابس الفولكلورية المحلية، والتزين بالحرير والمجوهرات، واضعات الشال على اكتفاهن، وحاملات الزهور والمراوح الملونة في ايديهن، وقد ارتدين احذية مطرزة بتطريز الملابس نفسها التي يشترينها من عائد بيع اوراق اليانصيب الخاصة بالاحتفالات وقيامهن باختيار "ضيوف الشرف". طوال اسبوع الاحتفال يسير الفتيان والفتيات في موكب كبير، وقد ارتدوا جميعاً الازياء الشعبية المعروفة في تلك المنطقة، وحملوا باقات الزهور الملونة بشتى الالوان. ويتجه الموكب تحفه الموسيقى النحاسية وآلات النفخ الهوائية من الحي مخترقة شوارع المدينة الى ان تصل الى ساحة كاتدرائية "الميجيليتي"، حيث يقوم تمثال للسيدة العذراء يصل ارتفاعه الى نحو 20 متراً، وحيث يقوم بعض الشباب بتكسية التمثال بالزهور التي تقدمها الفتيات، صانعين للسيدة العذراء عباءة فاخرة من ألوان الزهور الزاهية. وتوضع باقات الزهور حسب ألوانها بعناية لتضع الرداء الابيض، وفوقها العبارة القرمزية المطرزة بالألوان الذهبية. وما ان تنتهي مواكب الزهور قبيل غياب الشمس، حتى تنطلق الالعاب النارية فيندفع ابناء المدينة باتجاه ميدان البلدية، حيث تنصب القاذفات التي تطلق الى السماء بألوانها واشكالها التي برع صناع الالعاب النارية الاسبان في ابتكارها. وبانتهاء هذه الالعاب تبدأ فترة من الهدوء المتوتر في انتظار ليالي الغناء والرقص. ويصل تعداد السكان في اسبوع الاحتفالات الى ما يزيد عن ثلاثة اضعاف سكانها في الايام العادية. وينتشر الزوار في المدينة لتذوق نوع من الحلوى التي تنتشر اماكن صناعتها في الشوارع، وهي عبارة عن عجينة رخوة، يتم قليها في الزيت بالقائها حيثما اتفق، فتتخذ اشكالاً غير متكاملة، وتشبه في مذاقها وطريقة صنعها "الزلابية" او "لقمة القاضي" المصرية، وان كان بعضهم يخلطها بعجيبة "القرع العسلي" المطبوخ، والبعض يأكلها مغموسة في العسل او بخلطها بالسكر البودرة. وتنتشر في الشوارع ايضاً اماكن صنع وبيع "الشوكولاتة" الساخنة. وعندما يرخي الليل سدوله لا يجد له مكاناً في المدينة، التي تضاء بمئات الآف من لمبات النور فاتحة الطريق امام امتداد النهار ساعات اخرى تضاف الى ساعاته العادية، وتتحرك الجموع من حي الى آخر جرياً وراء ما تسمعه من آراء حول بعض الدمى اللافتة للنظر المقامة في جميع جوانب المدينة. ويجري الجميع لمشاهدة هذه الدمى خوفاً من ان تفوته رؤيتها قبل ان تمتد اليها النيران وتلتهمها. ويشارك الجمهور مصممي الدمى الغناء والرقص وشرب انخاب الفوز بجائزة أو بأخرى. وعندما تقترب الساعة من الواحدة بعد منتصف الليل تبدأ ألسنة اللهب في الانطلاق لتلتهم ما ابدعه الفنانون في عام كامل، بين الموسيقى والرقص والغناء ودموع الفتيات تزحف النار ببطيء بين الدمى، وقد احاط الشباب بها وفي ايديهم خراطيم المياه تحسباً لأي شرارة تنطلق باتجاه البيوت او المتفرجين، ثم سرعان ما تأتي عليها كاملة ولا تتركها الا رماداً اختلط بالماء المتدفق، وتزداد الموسيقى عنفاً مع صيحات الجموع حول هذه الدمية او تلك، ولا تهدأ الا باحتراق آخر دمية مع بزوغ الاشعة الاولى لشمس يوم العشرين من آذار. وعندما يبدأ عمال البلدية في رفع انقاض الدمى التي أتت عليها النار واغرقت بقاياها المياه، تباشر لجان الاحتفالات جمع اوراقها، للاستعداد لاحتفالات العام المقبل، التي يبدأ العد التنازلي لها عند انطفاء آخر لهيب ذوت ذؤابته على آخر دمية.