لا يحتاج برتولد بريشت الى مَن يدافع عنه حيال بعض الحملات التي قام بها بعض النقّاد العالميين، فنصوصه تدافع عنه خير دفاع وكذلك نظرياته والتجربة الشاملة التي خاضها وأسّس عبرها عالمه الخاص. وقد انتهز هؤلاء النقّاد مئوية بريشت التي ما برح العالم يحتفل بها ليطلقوا آراءهم السلبية داعين الى دفنه ودفن نظرياته في متحف التاريخ. وسعى البعض الى إعلان موته المجازي طبعاً من ضمن ما سمّي موت الايديولوجيا عقب انهيار المعسكر الاشتراكي. وشرع البعض الآخر في نقد بعض المقولات البريشتية كالتعليمية والجدلية وسواهما نقداً سلبياً من غير ان يقرأوا تلك المقولات في سياق رؤية بريشت الشاملة الى العالم. لكن الآراء النقدية لن تستطيع، مهما بلغت سلبيّتها، ان تنكر أهمية بريشت وأهمية "الثورة" التي احدثها ليس في عالم المسرح المعاصر فحسب وإنما في "حضارة" القرن العشرين. فهو استطاع اولاً ان يؤسّس مسرحاً جديداً يختلف كل الاختلاف عن المسرح الذي ترسّخ منذ الاغريق حتى العصر الحديث. ونجح ثانياً في جعل المسرح وسيلة من وسائل التحرر الانساني من ظلم التاريخ وظلم المجتمع على السواء. ويكفي ان يكتب بريشت ما كتب من نصوص مسرحية ليكون واحداً من كبار الكتّاب العالميين. ولعل ابرز ما يميّز نصوصه تحررها من وطأة الأدب ووطأة الكتابة الجاهزة والمغلقة. فهي نصوص حيّة لا تعرف الجمود وقابلة لأي تعديل يقترحه الإخراج. ولطالما استفاد بريشت من التمارين مع الممثلين ليعدّل نصوصه ويطوّرها ويبنيها مرة تلو مرة. يصعب دفن بريشت في المتحف حتى لو سقطت بعض نظرياته السياسية والايديولوجية في ايامنا الراهنة. فالمسرح الذي أسّسه هو من اهم المحطات التي عرفها المسرح المعاصر. وربما لم يعرف المسرح المعاصر تجربة في اهمية التجربة البريشتية وفي شموليّتها. وقد وسمت تجربته مرحلة بكاملها وتركت آثارها على التجارب الكثيرة التي رافقتها وتلتها. فالمسرح أخذ مع بريشت منحى آخر وهوية اخرى بل وظيفة اخرى. ويكفينا ان نعود الى نظريّتين انجزهما بريشت وطبّقهما فلم تظلاّ مجرد نظريتين وهما: التغريب والمسرح الملحمي. فهاتان النظريتان كانتا في اصل الثورة التي اعلنها ورسّخ من خلالها مسرحه المختلف. ولئن بدت مقولة التغريب على ارتباط وثيق بما يسمى عمل الممثل، فهي لم تخلُ من موقف ايديولوجي مضمر يدعو الى مواجهة الاغتراب الاجتماعي. فالممثل على خشبة بريشت لا ينصهر في الشخصية التي يؤدّيها انصهاراً تاماً ولا يذوب في ملامحها بل هو يحفظ مسافة ما بينه وبينها بغية عرضها على الجمهور او بغية اقتراحها. وهكذا حمل بريشت الممثل على مراقبة أدائه خلال العرض في هدف جعل الجمهور شاهداً على ما يؤدي اولاً وعلى ما يحصل على الخشبة ثانياً. فالممثل ليس إلاّ اداة وصل بين الواقع والعالم المتوهّم الذي ينهض تدريجاً. والممثل يمضي عبر أدائه في برهنة شخصيته التي يؤدّيها، فهو لا يحيا الشخصية ولا يحيا انفعالاتها وعليه ان يساعد الجمهور في تبنّي موقف نقدي وواعٍ كل الوعي ممّا يحصل على الخشبة. الممثل البريشتي في اختصار هو ممثل يمثل ويراقب نفسه كيف يمثل. وهنا يكمن التحدي البريشتي، فاللعبة المزدوجة تفترض ان يؤدي الممثل ما يؤدي وأن يعي في الوقت نفسه ما يؤدي. وإن بدت نظرية التغريب حين انطلاقتها في مسرح بريشت جديدة تماماً وغريبة عن النظريات السابقة فأن نظرية المسرح الملحميّ التي نجح بريشت في تطبيقها بدت بدورها جديدة وغير معهودة. وقد شملت العمل المسرحي ككل بدءاً بالنص وانتهاءً بالإخراج والأداء والسينوغرافيا والجمهور. ويهدف المسرح الملحميّ القائم على المشاهد المتقطعة الى التعليم في مفهومه الايديولوجي وليس التربوي وإلى المتعة ايضاً. وعبر هذا المسرح رسّخ بريشت رفضه للمسرح التاريخي وللمسرح السائد متخلياً عن البنية التصاعدية وما تفترض من شروط، وكذلك عن المفهوم التقليدي لبناء الشخصية التي لا تقوم في نظره إلاّ على الأفعال والكلام. وقد تجلّى المسرح الملحميّ خير ما تجلى في مسرحية بريشت الشهيرة "الأم شَجَاعة" في العام 1938. وقيل آنذاك: لم تندفع عجلة "الأم" إلاّ لتندفع معها عجلة المسرح. هل دخل بريشت حقاً متحف التاريخ وهل بات جزءاً من ماضي المسرح وذاكرته؟ ربما نصوص بريشت المعاصرة دوماً ونظرياته التي ما برحت مرجعاً لأهل المسرح، ربما هي وحدها قادرة على الإجابة عن مثل هذه التساؤلات. اما ان يدفن بعض النقّاد آثار بريشت فأمر يدعو لا الى الاستغراب فقط وإنما الى الاستهجان ايضاً.