الكتاب: اللّد في عهدي الانتداب والاحتلال المؤلف: إسبير منيّر الناشر: مؤسسة الدراسات الفلسطينية - بيروت - 1997 اللّد مدينة قديمة جداً حسب ما تؤكد آثارها، فقد سماها المصريون زمن تحتمس الثالث في القرن الخامس عشر قبل الميلاد، "رثن". وفي ايام الامبراطورية الرومانية كانت اللد، التي دعاها الرومان باسم ديوس بوليس، عاصمة في وسط فلسطين، وجعلوا لها نقداً وجدت قطع منه في الحفريات الاثرية. في سنة 636م احتلت الجيوش العربية الاسلامية اللد وأجلت عنها البيزنطيين صلحاً، بعد ان وقّع سكانها اتفاقاً مع عمرو بن العاص تدخل الجيوش العربية بموجبه اللد صلحاً على غرار الاتفاقات التي عقدها المسلمون عند دخولهم نابلس وسبسطية، مقابل جزية محددة يدفعها السكان. في سنة 1099م احتلت القوات الصليبية مدينة اللد فتغير اسمها إلى "سان جورج"، أو "جاورجيوس" تيمناً بالقديس الذي ولد وترعرع ودفن فيها. وفي سنة 1267م، استولى السلطان بيبرس المملوكي على مدينة اللد، بعد انتصاره على الصليبيين، وقضى على جميع معاقلهم في وسط البلاد. فعادت اللد الى سابق ازدهارها واهميتها واصبحت عاصمة المنطقة ومحطة لنقل الرسائل بواسطة الحمام الزاجل بين غزة ودمشق. مع بداية العهد العثماني العام 1516م، تحولت اللد الى قرية صغيرة تعيش في ظل مدينة الرملة التي اصبحت مدينة القضاء، كما كانت تتبع الرملة إدارياً وقضائياً. ومع ذلك اعتبرت اللد قرية مهمة لوجود الجامع الكبير فيها، وبسبب استمرار السياحة المسيحية اليها لزيارة قبر القديس جاورجيوس الخضر. مر على سكان اللد في أواخر العهد العثماني مصائب متلاحقة. ففي سنة 1900 انتشر فيها وباء الكوليرا، وفي سنة 1914 جنّد جميع شبانها للاشتراك في الحرب التي أنهت الحكم العثماني، لكن الكثيرين منهم لم يرجعوا بعد انتهاء الحرب. وسنة 1916 هاجمت اسراب هائلة من الجراد المدينة ومنطقتها وقضت على مزروعاتها فانتشرت المجاعة الامر الذي أدى الى موت المئات من سكانها. وفي أواخر العهد العثماني كان عدد سكان اللد يزيد على سبعة آلاف نسمة. في تشرين الثاني نوفمبر العام 1917، انسحب الجيش العثماني من اللد عند اقتراب الجيش البريطاني، فدخلت تحت الحكم العسكري الذي تحوّل بعد بضع سنوات ليصبح حكومة الانتداب البريطاني على فلسطين... ولتبدأ منذ ذلك الوقت المأساة الكبيرة التي ادت الى احتلالها من قبل اليهود بعد قرار تقسيم فلسطين في الاممالمتحدة. هذه المرحلة الأخيرة يرويها شاهد عيان، فالمؤلف اسبير منير عايش تلك الفترة بأدق تفاصيلها واشترك في المجهود الدفاعي مع ابناء البلدة، اذ عمل ممرضاً ميدانياً ورافق المدافعين عن المدينة في معظم المعارك التي خاضوها ضد القوات اليهودية المهاجمة. حتى بعد سقوط المدينة لم يغادرها وبقي مع الخمسمئة شخص ليتحملوا شتى أنواع العذاب، خصوصاً مع دخول المهاجرين اليهود بحيث أصبحوا أقلية صغيرة في بلدهم... لكن صراع البقاء أوصلهم هذه الأيام إلى 15 ألف نسمة في مدينة يبلغ عدد سكانها اكثر من 60 الف نسمة. اشتهرت اللد بسوقها الاسبوعي، وكان يقام كل يوم اثنين من كل اسبوع منذ مئات السنين. ويأتيه التجار من كل انحاء فلسطين والاردن وبلدان أخرى. لكن بعد ان احتلت القوات اليهودية المدينة، سنة 1948، توقف العمل في السوق بسبب اغلاق الحدود. وقد اشتهر السوق باسم "سوق البرّين" اذ ان التجار كانوا يحضرون اليه من مختلف انحاء الشرق الاوسط وافريقيا. اما الحياة الاجتماعية في اللد فتمثلت في العلاقة الجيدة بين جميع السكان من مختلف الطوائف، ولم يكن هناك احياء خاصة للطوائف الدينية. وبعد انتهاء ثورة 1936 نشأت في المدينة أندية ثقافية ورياضية عدة كان لها تأثيرها المحلي الملحوظ. ونظراً الى النشاط العمالي الكبير فقد تأسست جمعية العمال العرب في اللد لتهتم بتنظيم العمال في نقابات مهنية. وننتقل مع المؤلف إلى مرحلة ما بعد الاحتلال اليهودي للمدينة، فبموجب صك الانتداب الذي أعلنته عصبة الأمم كان يتوجب على الدولة المنتدبة، حسب المادة الثانية من شروط الانتداب، وضع فلسطين في حالة سياسية واقتصادية وادارية تسمح بانشاء وطن قومي لليهود فيها. كما سمحت المادة الرابعة للحكومة المنتدبة بانشاء وكالة يهودية تمثل جميع يهود العالم لإسداء النصح والمشورة للدولة المنتدبة. اما المادة السادسة فقد نصّت على ان على الحكومة المنتدبة ان تسهل هجرة اليهود الى فلسطين، في ظل أوضاع ملائمة لتوطينهم فيها، مع ضمانها عدم تضرر الأقسام الأخرى من السكان واوضاعهم. والملاحظ هنا ان المقصود بالأقسام الأخرى "الطوائف" وليس الشعب الفلسطيني. ومع وصول الاعداد الكافية من اليهود الى فلسطين، أصدر مجلس الامن قراره بتقسيم فلسطين بتاريخ 29/11/1947 إلى قسمين وبموجب هذا القرار ينتهي حكم الانتداب البريطاني على فلسطين في موعد أقصاه 15/5/1948. وبموجب هذا القرار ايضاً، والذي رفضه عرب فلسطين، فإن منطقة اللد - الرملة تقع ضمن حدود الدولة الفلسطينية العربية. ونتيجة عدم تأكد الشعب الفلسطيني من مصيره ومصير البلاد، بدأ اهل المدينة الاستعداد لمواجهة المصير المجهول فتألفت اللجان في الاحياء للتنظيم والتدريب وكلها تمتثل لأوامر لجنة قومية عليا اختارها السكان من وجهاء المدينة المعروفين بوطنيتهم. ومع انسحاب القوات البريطانية تاركة البلاد في فوضى رهيبة بعد ان سلحت القوات اليهودية ودربتها، بدأت المنظمات اليهودية اعمالها العسكرية ضاربة عرض الحائط ببنود قرار التقسيم، وبدأ سقوط المدن الفلسطينية الواحدة تلو الاخرى. فأعلن قرار الهدنة بتاريخ 10/6/1948 للوصول الى حل جديد، إلا أن هذا القرار لم يصمد اكثر من شهر اذ ان عدد المسلحين اليهود زاد بسبب تدفق المهاجرين ووضعت القوات اليهودية خطة لاحتلال منطقة اللد - الرملة سميت خطة "داني". وبتاريخ 11/7/1948 بدأت المعارك الفعلية لاحتلال المنطقة، ولم تتوقف الا بتاريخ 13/7/1948 لتبدأ رحلة العذاب لنحو 50 ألف مواطن لجأوا اليها بعد سقوط مدنهم ولم يبق في المدينة إلا 503 أشخاص كانوا النواة ل 15 ألف فلسطيني يشكلون الآن ربع سكان المدينة.