كان عبداللطيف الشوّاف شخصية اجتماعية وسياسية عراقية مرموقة. ففضلاً عن كونه الوزير الكفء النشيط والقانوني الضليع والخبير الواسع المعرفة في الجوانب القانونية للشؤون النفطية والمالية، كان شخصية موسوعية في التراث والأدب وكان سريع البديهة حاضر النكتة. كذلك كان الشوّاف موضع ثقة الفئات السياسية المختلفة، لاستقلاله وانصافه، ومن أنشط العاملين على تقريب وجهات النظر بينها وجمع شملها من أجل استقرار العراق وخيره وتقدمه. وكان من القلائل الذين يتفق اكثر العراقيين، على اختلاف انتماءاتهم السياسية، منذ الخمسينات وحتى رحيله المحزن بعيداً عن الوطن، على كفاءته وسعة أفقه وموضوعيته وحبه للناس والعمل المجدي. فقد ظل مستقلاً عن الأحزاب والتنظيمات السياسية مع الحفاظ على العلاقات الطيبة دائماً مع الفئات كافة. وشارك بنشاط في العمل السياسي في العراق كشخصية مستقلة مؤثرة ومحبوبة، كما أقام علاقات عربية واسعة في المجالات السياسية والقضائية والاقتصادية. واغتراب هذا الانسان الرائع والعراقي الكفء المخلص وهجرته عن تراب وطنه مؤشر على مدى تردّي الأوضاع الاجتماعية والسياسية والفكرية في العراق، وعلى محنة مثقفيه وأحراره. كان الشوّاف يبحث دائماً عن نقاط الالتقاء ويدعو للتضامن والعدل والتعاون بين الجماعات، ومع ذلك لم ينج من تعنت البعض ممن كان يحسب انهم الأقرب اليه فكرياً وسياسياً، شأن كل من يتصدى للعمل السياسي في الجو العراقي العاصف، إذ لم يرق لهم استقلال رأيه وجهره به وموضوعيته ازاء الأحداث. كذلك تعرض لضغوط محرجة من قبل الحكام الذين طلبوا منه بالحاح تشكيل حزب سياسي يعلم هو قبل غيره ان مثل ذلك الحزب لن يكون إلا ذيلاً لپ"الحزب القائد" وواجهة للتمويه بوجود تعددية سياسية في البلاد، كما دلت على ذلك التجارب الحيّة والواقع المر للعمل السياسي في العراق. وقد همس رحمه الله في اذني عند لقائي به في مصر آنذاك: "ان هذا هو السبب الرئيسي وراء عدم عودتي الى الوطن، إذ أخشى التعرض لضغط متزايد في هذا الموضوع"، وأردف ساخراً بطريقته الشعبية المحببة ما معناه: "من يفعل مثل ذلك سوف يرميه الناس بالنعال في شوارع وأزقة الكرخ وبغداد". وهكذا آثر ابو علي، على شيمة البغداديين الأصلاء، شظف العيش و"بهدلة" الاغتراب على "بهدلة" الكرامة في العراق. وكان يردد حتى قبل اغترابه: "انني أحترم أصحاب الرأي الذين هاجروا خارج الوطن بعيداً عن أوضاع لا يقبلونها ولا يرتضون العيش في ظلها، فهذا موقف يدعو الى الاحترام"… وانتهى الأمر به ان يلحق بجمهرة المهاجرين من أصحاب الرأي منذ العام 1989. عرفت عبداللطيف الشوّاف للمرة الأولى العام 1955 وهو حاكم قاضٍ نابه في محكمة بداءة البصرة وكان معروفاً للجميع بذكائه وكفاءته وشخصيته القوية ودأبه على العمل. وأكد لي احد قضاة محكمة تمييز العراق آنذاك، وهي أعلى هيئة قضائية في البلاد، ان شيوخ القضاء في العراق في تلك الهيئة كانوا غالباً ما يبدون سرورهم وأعجابهم مجتمعين برصانة أحكامه عندما تعرض عليهم كهيئة أعلى للمراجعة. ولا شك في ان الفهم والحس القانوني العالي عند عبداللطيف هما الأساس الراسخ لما عرف عنه من انصاف وعدل وحياد. في البصرة الفيحاء، وا أسفي عليها، كان ابو علي محل احترام وحب وثقة زملائه من القضاة والمحامين، وكانت علاقاته الشخصية الممتازة تمتد عبر كامل الطيف الاجتماعي والسياسي فيها سواء جماعة الحزب الوطني الديموقراطي او حزب الاستقلال او الحزب الشيوعي او كبار التجار ورجال الأعمال والمثقفين والوجوه الاجتماعية المعروفة. وكنت أعلم انه كان كثيراً ما يحرر المقالات الافتتاحية - من دون توقيع - في جريدة الحزب الوطني الديموقراطي في البصرة، أقرب الأحزاب لمعتقده السياسي آنئذ، والذي كان يرأس فرعه فيها صديقه الصدوق المرحوم محمد العبدالله الفالح السعدون. كان الشوّاف متواصل النشاط في قلب الحركة الوطنية المناوئة للسيطرة البريطانية الاستعمارية ابان العهد الملكي منذ الخمسينات من دون تظاهر او ادعاء. وقد أهلته كفاءته المشهودة واستقلاله وحماسه الوطني المتزن لاشغال مراكز متقدمة في الدولة بعد 14 تموز يوليو 1958 حتى اختير وزيراً للتجارة، فلعب دوراً فاعلاً كعادته في ما تحقق من انجازات وطنية مهمة للتحرر من السيطرة الأجنبية كقانون رقم 80 القاضي باستعادة ما لم يستغل من أرض العراق من قبل شركات النفط الأجنبية للدولة، والاعداد لتأسيس شركة النفط الوطنية، وتطوير العلاقات التجارية العراقية مع البلدان المختلفة. كما استمر في جهوده، خلال تلك الفترة المعقدة سياسياً، للعمل شبه المستحيل، آنئذ وحتى اليوم للأسف، على التقريب بين الفئات السياسية المختلفة والمتصارعة. ولعل من مزايا عبداللطيف ديبلوماسيته المرنة، إذ استطاع الخروج من وزارة عبدالكريم قاسم مع الحفاظ على العلاقات الطيبة معه ومع جميع الأطراف المختلفة، بل والاستمرار على جهوده للتقريب بينها. ينتسب عبداللطيف الى عائلة الشوّاف في الكرخ من بغداد، وهي من العوائل السنيّة المحترمة والمعروفة بمركزها الديني المرموق، وكان والده المرحوم علي الشوّاف قاضياً في المحاكم الشرعية عرف بالاستقامة وحسن السمعة. ولد عبداللطيف العام 1926 ونشأ نشأة محافظة وتشبع بالقيم العالية وطلب العلم ومساعدة الناس والزهد في المظاهر. وتلك قيم ظلت راسخة لديه ولدى الكثيرين من أبناء جيله الذين نشأوا وترعرعوا ابان فترة الحكم الوطني في العراق. ونظراً الى علاقاته الاجتماعية الواسعة وذكائه ودقة ملاحظته ومعرفته الموسوعية بالتاريخ والتراث وبالناس وسلوكهم وأصولهم، فقد ظل يرقب بحسرة تهافت القيم وترديها منذ أخذت النزاعات السياسية والعرقية والويلات والحروب والقمع الواسع والارهاب والخوف تتفاقم وتطحن المجتمع العراقي فتحيله الى كومة من البؤس والظلم والفساد. ودفعته الحسرة على تدهور المثل والسلوك الاجتماعي وكذلك الحرص على تثبيت نقيض ذلك من الجوانب الخيرة والأصلية في الشخصية العراقية الممتهنة وفي المجتمع العراقي الى اعداد واصدار كتابه "شخصيات نافذة" ليسرد فيه سيرة أشخاص عرفهم عن قرب وعرف فيهم صفات حميدة رائعة ليذكّر العراقيين بأن الشر والصفات الكريهة السائدة في مجتمعهم الحالي ليست أصيلة فيه وانما هي الزبد الذي سيذهب هباء على رغم طول المعاناة والآلام. وقال لي وهو ما يزال يستطيع الكلام بعد: "انني لم أذكر جوانب الضعف والنواحي السلبية في أي من الأشخاص الذين اخترتهم للكتاب على رغم استحالة خلو أي انسان من العيوب وهي إن وجدت في أي منهم لا تستحق الذكر ازاء ما نلمسه ونعانيه اليوم من شرور، والمهم ان أضرب للعراقيين امثلة طيبة تشجعهم على الأمل والحب والرحمة والتكافل والثقة بقدرتهم الذاتية على تجاوز المصاعب". لقد انتقد البعض اختياره للأشخاص باعتبار ان منها من لا يجوز وصفه بأنه شخصية نافذة، وفاتهم انه لم يكن يؤرخ لعظماء الدولة والزعماء وانما للصفات الشخصية العالية فيهم في الأساس، على تباين أوضاعهم الاجتماعية. والمعني بالنفوذ عنده اثرهم كقدوة حسنة في مجتمعهم المحلي وفي مجال عملهم، وهو في ذلك يرجع الى خبرته الشخصية الوثيقة بهم، ولا شك في ان العراق غنيّ بنماذج بشرية كثيرة تدعو للفخر والاعتزاز بصفاتها الشخصية الانسانية الحميدة. اختار الشوّاف ستة أشخاص في الجزء الأول من كتابه، ولكنه في الواقع لم يقتصر عليهم بل زاد العشرات من الأشخاص والعوائل البغداديةوالعراقية ممن لهم علاقات قربى او صداقة او عمل او جوار معهم. كذلك استفاض في الكتابة عن الظروف السياسية والاجتماعية التي عايشوها مما يعد بحد ذاته دراسات أصيلة قيمة عن تلك الظروف. ولو دققنا في الصفات التي ركّز على التذكير بها وأبرزها لوجدنا الاباء والشجاعة والكرامة والكرم والزهد لدى عبدالله الفالح السعدون، والعمل المخلص المنتج والحرص على صالح الوطن واحترام الناس لدى سليمان فتاح، والشفقة الانسانية والمرؤة والنزاهة عند شكر التكمجي، والتواضع والقناعة والوفاء والأسى لمصائب الآخرين لدى محمد زينل، والعلم والنزاهة والأخلاق السمحة والدقة في العمل واللسان عند محمود خالص، والصراحة والحسم والكرم وقوة الارداة والورع والتقوى من دون ادعاء او مأرب عند حمد الذكير. كان عبداللطيف الشوّاف يؤمن بأن الصفات الأصيلة الحميدة هي الباقية في المجتمع العراقي وأن الاضطراب والتدهور الاجتماعي الآخذ بخناق العراق الى زوال مهما بدا من جوانب سلبية مؤلمة، وعلى رغم التشهير والتعميم. فالعراق ليس حديث عهد في التقدم الحضاري بل هو موطن اشعاع الحضارة الاسلامية في العصور السالفة. وأراد الشوّاف ان يذكر من يدعون الفضل على شعب العراق بما روى عن الامام الشافعي إذ سأل صاحبه يونساً: "يا يونس، أدخلت بغداد؟" قال يونس: "لا"، فرد الشافعي: "ما رأيت الدنيا ولا رأيت الناس". كما عرض في كتابه معرباً عن شوقه وحبه للعراق وأهله، بعض خلجات الشاعر الفيلسوف أبي العلاء المعري في حب العراق إذ قال: على سنين تقضت عند غيركم أسفت لا بل على الأيام والساعِ وفي العراق رجال قر بهم شرف هجرت في حبهم رهطي وأشياعي وقال: إذا نأت العراق بنا المطايا فلا كنّا ولا كان المطيُّ على الدنيا السلام فما حياة إذا فارقتكم إلا نعيُّ في التسعينات أعد الشوّاف مسودة لدستور عراقي دائم، كما أعد دراسة قانونية فقهية حول النظام الفيديرالي. وتلك الدراسات ما هي الا تعبير عن حبه لشعبه العراقي ووطنه واحترام لحق الشعب الكردي في تقرير المصير حفاظاً على روابط التاريخ والاخاء والتضامن بين عناصر الشعب العراقي. وهي دراسات متعمقة لقانوني عراقي ضليع يجدر نشرها للبحث والمناقشة تكريماً لذكراه وحرصه على خير الوطن. رحم الله ابا علي، فقد كان عراقياً أصيلاً متحضراً محباً لشعبه ووطنه وللانسانية جمعاء، عمل من دون كلل من أجل وحدة شعبه وتقدمه.