سبقت "الحياة" في نهاية الاربعينات كل الصحف العربية والأجنبية في مقابلة فوزي القاوقجي وهو في باريس. ومن الاسئلة التي طرحها عليه المراسل في المقابلة التي نشرت في صدر الصفحة الأولى سؤال يتعلق بمشاريعه المستقبلية. وأجاب القاوقجي: "يصعب عليّ كثيراً ان اجيب على سؤالك. ولكن الجواب عليه تجده في ماضيّ، أنا رجل عسكري منذ صغري. لا أفهم شيئاً في السياسة، ولا أحب ان افهم شيئاً منها. ولعل المراحل الباهتة من حياتي هي تلك التي خلت من العمل العسكري لسبب أو لآخر. لقد نذرت نفسي للجهاد في سبيل تحرير الأقطار العربية من النير الأجنبي. أنا، اذن، رهن الحوادث والمصالح العربية. فاذا ما دعاني النضال في أي قطر كان، فأنا على اتم استعداد لتلبيته". وفلسطين؟ - انها في رأس القائمة. وأنا حاضر مستعد في أي وقت كان. وهل زدت معلوماتك العسكرية في المانيا؟ - طبعاً. فقد اتيح لي ان اطلع على كثير من المستحدثات العسكرية، ان في الأساليب أو في الاسلحة. كانت بريطانيا على وشك الانسحاب من فلسطين بعد ان مهدت السبيل لتقسيم الجغرافية الفلسطينية الى دولتين، تكون احداهما لليهود تنفيذاً لوعد وزير خارجيتها بلفور الذي قطعه خلال الحرب العالمية الأولى. لذلك، حرصت على عرقلة عودة القاوقجي الى وطنه، سواء بالاتصالات الديبلوماسية مع الحكومتين المصرية واللبنانية، أو بواسطة أمن مطار اللد التابع لحكومتها في فلسطين. سبق للقاوقجي ان قاد مقاومة الاستيطان عام 1936، وها هو الآن، بعد ازدياد خبرته العسكرية في المانيا، يعلن عن استعداده للقتال مرة اخرى، خصوصاً في فلسطين. من هنا سرّ ملاحقتها القاوقجي في رحلته، خطوة خطوة، بل و"قوطبتها" عليه كما سيجيء في أوراقها الديبلوماسية. السفير البريطاني في القاهرة يبرق الى خارجية بلاده حول وصول القاوقجي الى مصر وتحركاته، ويضمن برقيته اقتراحاً الى نظيره في بيروت، ولا ينسى ان يتوّج البرقية بعبارة تشدد على صيانة سريتها. "وصل فوزي مطار الماظة في منتصف الثالث والعشرين من شباط فبراير. وبناء لطلبنا وضع اسمه في اللائحة السوداء. لذلك رفض ضابط الجوازات المناوب منحه الاذن بترك المطار. ولكن بعد جدال، أقنع القاوقجي الضابط بالسماح له للاتصال بعبدالرحمن عزام باشا. فوجئ أمين عام الجامعة العربية تماماً، ولكنه أوعز للضابط بمنحه فيزا لمدة 24 ساعة. ثم تلفن عزام الى نقراشي باشا رئيس الحكومة المصرية الذي كان خائفاً من نبأ وصول القاوقجي. في البدء، رفض النقراشي وجود فوزي في مصر وطلب مغادرته الفورية. ولكن عزام لفته الى ان معاملة فوزي يجب ان تبقى في حدود معينة بقساوتها نظراً لأنه بطل قومي. اخيراً وافق النقراشي على بقاء فوزي أربعة أيام في مصر. وهو الآن يقيم في فندق كونتيننتال، وسيغادر الى بيروت في منتصف ليل غد". وفي البند الثاني من البرقية، ثمة تشكيك ببراءة مفاجأة عزام باشا والنقراشي باشا من وجود القاوقجي في مصر. ويعزز كاتب التقرير تشكيكه بفيزا الترانزيت التي حصل عليها فوزي من القنصلية المصرية في باريس. اما البند الثالث فيقتصر على معلومة اجتماع فوزي بالمفتي أمين الحسيني المستقاة من الصحافة. ويقترح في البند الرابع والأخير لو يلفت السفير البريطاني في بيروت نظر وزير الخارجية اللبناني الى التبني العلني للقاوقجي من قِبل بعض موظفي السفارة اللبنانية، وهو الرجل الذي حارب مع الالمان ضد الانكليز في العراق اضافة الى اشياء اخرى مماثلة. والظاهرة ان وزير الخارجية البريطانية نقل اقتراح السفير البريطاني في مصر الى السفير البريطاني في بيروت. ولكن الأخير أشار في البند الأول من التقرير المرسل من بيروت الى الخارجية البريطانية بتاريخ 28 شباط 1947، الى انه سبق وأقام اتصالاً مع السلطات اللبنانية بخصوص عودة القاوقجي. وهو ينوي ابداء مفاجأته لوزير الخارجية اللبناني حول تصرف السفير اللبناني في القاهرة بما يختص باقامته مأدبة على شرف القاوقجي وفق ما نشرته الصحف. وتوقع السفير ان يبرر وزير خارجية لبنان تصرف القنصلية اللبنانية في القاهرة بمساعدتها القاوقجي على تمديد أجل الفيزا المصرية، بعد ان أبدى رأيه المعقول حول حق القاوقجي في العودة الى لبنان لأنه مواطن لبناني، لكنه يعتقد ان معاليه يوافق على ان السفير اللبناني ذهب بعيداً في موقفه الايجابي من القاوقجي. اما دور عزام باشا في تمديد فيزا القاوقجي في مصر، فإنه سيغدو مشجعاً للبنانيين في موقفهم. ذلك انهم، وبخاصة وزير الخارجية، ضعفاء تجاه عزام ومطالبه للجامعة العربية. قبل الانتقال الى المرحلة الاخيرة من رحلة القاوقجي وما ورد عنها في محفوظات الخارجية البريطانية، لا بأس من ايراد الملاحظات والايضاحات الآتية: 1- ان الصحافة العربية ومنها "الحياة" ذكرت ان القاوقجي وصل الى مطار فاروق لا الماظة كما ورد في تقرير السفير البريطاني. 2- ان الديبلوماسي اللبناني في القاهرة الذي ساعد في تمديد فيزا القاوقجي في مصر هو السيد حليم أبو عزالدين القائم بأعمال المفوضية اللبنانية في مصر آنذاك. وأبو عزالدين أصبح سفيراً للبنان في الهند وهو الآن متقاعد. 3- اثر خروجه من المطار، زار القاوقجي قصر عابدين وقيد اسمه في سجل التشريفات. ثم زار السفارات العربية، شاكراً اهتمامها به. وبعدها زار مقر الجامعة العربية واجتمع مطولاً بأمينها العام عبدالرحمن عزام، ثم انتقلا الى جزيرة صغيرة بحديقة الحيوانات حيث تناولا الغداء. بدأت الاستعدادات في طرابلس لاقامة استقبال حافل للقاوقجي قبل ان يترك القاهرة. ونشرت الصحف خبر الاحتفال مؤكدة ان خلافات الطرابلسيين ستُطوى موقتاً كرمى عيون القائد الطرابلسي غير المنتمي الى بيت المقدم أو بيت كرامي. وركب القاوقجي الطائرة في 2 آذار مارس 1947. وشاءت الصدفة ان يكون جالساً بقربه الفنان فريد الأطرش وأنطون سعادة مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي. وعندما حطت الطائرة على أرض المطار القديم في بيروت ظن القاوقجي، لأول وهلة، ان الجموع المحتشدة هناك جاءت لاستقباله. لكن حين قرأ بعض اللافتات المرفوعة، أدرك ان الحشد جاء لاستقبال سعادة العائد من الارجنتين بعد غياب قسري دام عشر سنوات. وقبل ان يصل القاوقجي الى طرابلس، كانت مذكرة التوقيف قد سطّرت بحق سعادة نتيجة الخطاب الذي ألقاه على مستقبليه وانتقد فيه الحكومة اللبنانية. فهل مضى استقبال القاوقجي بسلام؟ لنقرأ برقية السفير البريطاني الى وزارة خارجية المملكة المتحدة والمرسلة بتاريخ 5 آذار 1947: زار امس القاوقجي مدينة طرابلس بعد وصوله الى بيروت جواً في الثاني من آذار. ولكن الاستقبال الحاشد الذي جرى احتفاء به من قبل كل الفرقاء المتخاصمين، انتهى بحادث خطير قُتل فيه ستة عشر شخصاً وجرح خمسون بينهم عشر اصابات خطيرة. كان بين القتلى قبضاي عبدالحميد كرامي رقم واحد مظهر العمري، خصمه الأول في عاصمة شمال لبنان نافذ المقدم. وفوراً أعلنت الحكومة حالة الطوارئ في المدينة، وتم انتشار الجيش". وورد في المقطع الثاني من البرقية "ان وزير الخارجية اللبنانية أكد للسفير ان الحادث نجم عن خلافات طرابلسية داخلية ولا علاقة له بزيارة القاوقجي على الاطلاق، التي وفرت الفرصة للاشتباك المحتم. لكن معاليه أبدى اسفه لأن القاوقجي لم يقبل نصيحته بتمضية بضعة أيام في مصيف جبلي هادئ بديلاً عن الاستقبال الطرابلسي". واقتصر البند الرابع على العبارة الآتية: "غادر القاوقجي طرابلس هذا الصباح بناء لطلب الحكومة اللبنانية"؟ هنا، وللمرة الأولى تلتقي السفارة البريطانية مع صحيفة "الحياة" مع فارق واحد، ان الاخيرة غطت تفاصيل معركة قبضايات طرابلس في عددها الصادر بتاريخ 5 آذار 1947. ولنتوقف امام اهم ما ورد فيها من اسماء ووقائع: وصل موكب القاوقجي الى مدخل طرابلس في الحادية عشرة من قبل ظهر الثلثاء. وبسبب كثافة الجماهير التي فاق عددها المائتي ألف نسمة، فإن الموكب لم يتمكن من الوصول الى ساحة التل التي تبعد كيلومتراً واحداً عن مدخل طرابلس، الا في الثانية والنصف بعد الظهر. وكعادة اللبنانيين في الاحتفالات، فان اطلاق الرصاص من المسدسات والبنادق لم يهدأ لحظة واحدة. شباب يحملون القبضاي محمد الحنطور على الاكتاف. ومشى امام هذا الموكب نافذ المقدم وشوقي دندشي. وفي تلك اللحظات، توقفت سيارة مظهر العمري - مساعد كرامي الايمن - حيث شوهد مدفع رشاش في داخلها. ثم ما لبث ان لعلع الرصاص في كل اتجاه. وقدر مراسل الصحيفة في طرابلس ان عدد القتلى والجرحى كان اكثر من الارقام التي تداولها السفير البريطاني في برقيته. وعلى الفور "اسرع جمهور من المستقبلين، فأحاطوا بالمجاهد القاوقجي وأدخلوه الى كاراج فوزي القطان". كما نشرت "الحياة" البلاغ الرسمي الذي اذاعته الحكومة حول الحادثة. من المؤكد ان هذا الحادث كان، بالنسبة للقاوقجي اسوأ بكثير من الذي تعرض له يوم حطت طائرته بصورة مفاجئة في مطار اللد. ويمكن ان نتوقف عند ثلاث نتائج سلبية للحادث السيء: أولاً: على المستوى الشخصي، كان القاوقجي، الذي غاب سنوات عن مدينته وأهله، يمنّي النفس، كأي انسان، ان يمضي اياماً وأسابيع مع اقربائه ومريديه وبساتين الليمون التي تغطي مساحة كبيرة من عاصمة الشمال. فانقلب عرس الاستقبال الى مأتم. واضطر القاوقجي الى مغادرة المدينة بعد ساعات من وصوله اليها. ثانياً: ومما ضاعف من أسى القاوقجي سماعه الرصاص وهو يطلق هدراً في المرحلة الأولى بدلاً من اطلاقه في معركة مع العدو، ورؤيته شجعان مدينته يسقطون قتلى وجرحى نتيجة حزازات محلية سياسية أو شخصية، بدلاً من استشهادهم في معارك التحرير في فلسطين. ثالثاً: كان متوقعا من عودة القاوقجي كرمز وطني وتحريري، ان ترفع من اسهم حملة لواء التحرير والوطنية على الساحة اللبنانية لو ان الاستقبال استمر سلمياً. لكن حدوث مجزرة بعد ساعات قليلة من دخوله طرابلس المشهورة بالمواقف الوطنية، أضعف من اسهم الوطنيين، وعزز موقف الخصوم الذين تتراوح سياساتهم بين تحييد لبنان حيال المسألة الفلسطينية وبين التأييد الضمني للاستيطان اليهودي في فلسطين. والسؤال: هل كان حادث الاستقبال عفوياً ومحلياً أم انه تمّ نتيجة خطّة مخابراتية تستهدف، ليس فقط تبديد وهج عودة القاوقجي وإضعاف زخم الحركة الوطنية في لبنان بل يمكن القول هل كانت هناك خطة مدبرة لاغتيال أبرز قائد عسكري في مجال حروب التحرير، في عموم العالم العربي آنذاك؟ في المجال النظري، وبالمقارنة مع حوادث مماثلة في لبنان، وآخرها اغتيال النائب معروف سعد في صيدا عشية الحرب الاهلية عام 1975، يمكن الاستنتاج بأن أصابع مشبوهة او مخابراتية قد حوّلت وجهة سير الرصاص من الفضاء الى الاجساد ومن الابتهاج الى الفتنة. لكن عدم التوسع بالتحقيق، وطيّ صفحة الحادث كما جرت العادة في لبنان، عززا وجهة النظر التي نقلها وزير الخارجية اللبناني الى السفير البريطاني، وهي ان الحادث كان ثمرة خلافات طرابلسية شخصية أو سياسية محلية. مهما يكن من أمر، فان نجاة القاوقجي من الحادث، لم تبعث السرور في قلوب الديبلوماسيين الانكليز. والدليل انهم تابعوا تقاريرهم السلبية بحق القاوقجي، اعتقاداً منهم، وبحق، انه سوف يلعب دوراً في الحرب المتوقعة في فلسطين، التي يتخوفون ان تحول دون تحقيق وعد وزير خارجية بلادهم الاسبق اللورد بلفور بتأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين. أحد التقارير اعده القائم بالاعمال البريطاني في دمشق وأرسله الى الدائرة الشرقية في وزارة الخارجية البريطانية بتاريخ 3 تشرين الثاني نوفمبر 1947، يقول: شرب القائم بالاعمال الاميركي في دمشق مامنغر فنجان شاي مع القاوقجي في منزل مضيفه أحمد الشراباتي، ونقل الى نظيره البريطاني ان صاحبه يقيم في منزل فخم يمتلكه وزير الدفاع السوري ويقع في افخم حيّ في دمشق، ويتلقى من صاحب المنزل مبلغ ألف ليرة سورية شهرياً. وبرّر الشراباتي تصرّفه بأنه غنيّ وصديقه القديم لا يملك قرشاً واحداً. ويؤكد كاتب التقرير ان فوزي يصرف اكثر من ألف ليرة في الشهر، وان زوجته الالمانية تلبس ثياباً فخمة وتتزين بالحلي، إلى ذلك يعج المنزل الكبير بالزوار والمشايخ. وخلال الحوار أكّد القاوقجي للديبلوماسي الاميركي ان الجيوش العربية غير فعّالة ومنقسمة على بعضها، ولن يكون لها فعالية، وهي تقاتل مجتمعة. اما القتال الشعبي بقيادة القاوقجي، فسيكون الصحن اليومي في فلسطين. فهو يتمتع بخبرة واسعة في هذا المجال. وقال القاوقجي في سياق حديثه مع مامنغر انه التقى في دمشق بزعيم الحزب الشيوعي خالد بكداش، وأكد له انه اذا بقي اسبوعاً واحداً في المنطقة الالمانية التي يحتلّها الروس، فسيقطع فوراً علاقته بروسياً. وحول بيت القصيد، اخبر الديبلوماسي الاميركي نظيره البريطاني من الواضح ان القاوقجي يبذل جهداً كبيراً في ورشة المشروع الذي يفترض انه عاد من أجله.