كان توماس ارنولد قد نشر عام 1931 كتاب "تراث الإسلام" الذي ترجم وطبع مراراً في العالم العربي. والكتاب الذي نحن بصدده، أيضاً عنوانه "تراث الإسلام"، نشر عام 1974 لمجموعة مؤلفين أجانب، وأشرف على وضعه الدكتور جوزيف شاخت. وقد صدرت حديثاً طبعته الثالثة في سلسلة عالم المعرفة الكويت، وأضيفت اليه مواضيع جديدة في عالم الاستشراق. ترجمه الى العربية محمد زهير السمهوري، حسين مؤنس وإحسان صدقي الصمد. ويعتبره الدكتور شاكر مصطفى رئيس قسم التاريخ بجامعة الكويت "يكشف وضع الاستشراق بما له وما عليه. انه يفضح قوته وضفه في وقت معاً، أكثر مما يكشف من الجهد الإسلامي الحضاري... هو مرآة ما انتهى اليه الاستشراق اليوم من الضيق... وان الهدف من نقله الى العربية ومن وضعه بين أيدي القراء العرب والباحثين إنما هو فقط مجرد معرفة ما يقال، على الطرف الآخر من حدودنا وباللغات الأجنبية الأخرى! وتقتصر مواضيع الكتاب على تناول الإسلام كشأن ثقافي وحضاري، وتاريخ الإسلام من العصور الوسطى حتى تاريخ حملة بونابرت على مصر حوالي عام 1800م والتي تعود اليها "معظم مظاهر تراث الإسلام". جميع كُتّاب فصول المؤلف بأجزائه الثلاثة، وضعه أجانب، باستثناء مقالة كتبها الكاتب الهندي عزيز أحمد، وقد أغمط هؤلاء الأجانب "الحق العربي" لذا، فلن يجد "القارىء العربي المسلم في هذا الكتاب نفسه وحضارته... ولكنه سيفيد منه أعظم الفائدة ان استطاع أن يرى فيه الفرصة لأخد فكرة صادقة عن مقدار العلم لدى الغرب عن الإسلام وأهله وعن الحضارة الإسلامية...". ويطلق الدكتور مصطفى، دعوة واضحة وصريحة للكتاب والمفكرين في عالم العروبة، لتناول مواضيع كتاب "تراث الإسلام" من قبل "أصحاب البيت" بعناية ودراية ودرس وبحث وتنقيب لتفصح عن صورة الإسلام الحقيقي في حضارته وجملة عطاءاته الخالدة. والكتاب بأجزائه الثلاثة، يُعاد إصداره في طبعة ثالثة في سلسلة "عالم المعرفة" الكويتية، إدراكاً منها "أن أهميته القصوى تنبع من قدرته على اثارة الكثير من الجدل الذي من شأنه أن يُغني هذا المجال من البحث، كما يرسخ فينا الإيمان الصادق والموضوعي بإنجازات حضارتنا، فيكون هذا باعثنا لنسعى قدماً نحو المشاركة بفعالية في حضارة المستقبل". وما يميز هذا الكتاب الغني بالمعلومات عن مختلف شؤون "الحضارة العربية" هو أن محرريه أصحاب باع طويلة في هذا المجال، فقد تتبعوا بعناية، ورصدوا بدقة مختلف مظاهر هذه الحضارة في جملة إشعاعاتها الثقافية والفكرية والاجتماعية والاقتصادية... ليدللوا بالوثيقة والعلم، ان انجازات هذه الحضارة تخطت الحدود المحلية لدول عالم العروبة، الى أرجاء المعمورة كلها، وهذا ما يردده المفكر الإيطالي فرنشيسكو غابرييلي في مقالته حول "الإسلام في عالم البحر المتوسط" حيث يقول في تأثير اللغة العربية على الإيطالية: "ان خلاصة التأثيرات العربية في الحضارة الإيطالية في العصور الوسطى من خلال جميع هذه الطرق إنما نجدها في العناصر اللغوية العربية التي دخلت اللغة الإيطالية. وهذه الناحية كثيراً ما عولجت بطريقة غير جدية، ولم تعالج إلاّ مؤخراً فقط بطريقة علمية رصينة". ويقول في مكان آخر من مقالته: "ولكن إذا كان الإسلام كدين قد أثّر في مصير اسبانيا تأثيراً يصعب اعتباره ايجابياً، فإن الحكم يختلف تمام الاختلاف حين يتعلق الأمر بالتأثيرات الثقافية والأدبية والفنية التي تغلغلت في الحضارة الإسبانية من العصور الوسطى حتى العصور الحديثة". ويتناول المستشرق الفرنسي مكسيم رودنسون في مقالته صورة المسلم في الغرب، والدراسات الإسلامية في دول الغرب، نظرة الأوروبي منذ ولادة الدين الإسلامي، وتطور هذه النظرة حتى العصور الحديثة، وان الاهتمام بالمشرق بدأ مع الحروب الفرنجية لتحرير بيت المقدس كما جرى الادعاء، إذ لم يكن هنالك طلب "في الغرب لعرض مفصل لتاريخ الإسلام السياسي، كما أنه لم يكن يوجد أي اهتمام كبير بالمنازعات السياسية بين "الكفار". ولكن من جهة أخرى فقد أوجدت الحروب الصليبية الفرنجية حاجة كبيرة وملحة للحصول على صورة كاملة ومسلية ومرضية لإيديولوجية الخصوم". فظهرت الترجمات اللاتينية ابتداء من العام 1100م، لبعض الدراسات الإسلامية، فأخذت تتشكل في ذهن الأوروبي، منذ ذلك الحين صورة أخرى عن العالم الإسلامي، "صورة الكيان السياسي الذي يسيطر عليه دين معاد ومغلوط". ومع الوقت، ومع كثرة الترجمات، بدأت الصورة تتغير ملامحها في ذهن الغربي، وبدأت فترة أخرى من التعايش السلمي والتقارب بين الديانتين الى أن ولدت مرحلة الاستشراق، فطبعت الأعمال الطبية والفلسفية لابن سينا في فرنسا وهولندا والمانيا وتأسس أول كرسي للعربية عام 1539 في الكوليج دو فرانس في باريس، واعتباراً من القرن السابع عشر "انبرى كثير من الكتاب للدفاع عن الإسلام ضد الإجحاف الذي ناله في العصور الوسطى، وضد مجادلات المنتقصين من قدره، وأثبتوا قيمة واخلاص التقوى الإسلامية". وكتب سايمون أوكلي الأستاذ في أوكسفورد "تاريخ السراسنة" 1708 - 1718 "وهو أول محاولة لجعل نتائج أبحاث المستشرقين في متناول عامة القراء، مجدَّ الشرق الإسلامي ورفعه فوق الغرب. وهكذا انتشرت الحقائق والأفكار التي جاء بها رجال العلم والتي ألفها كتّاب من أمثال فولتير، وادوار جيبون الذي وضعت تقديراته المتوازنة العالم الإسلامي في مكان رفيع في التاريخ الثقافي والفكري للإنسانية. وهكذا بدأت تتكامل معالم صورة: هي صورة محمد الحاكم المتسامح والحكيم والمشرع". وهكذا حلت صورة جديدة للشرق الإسلامي في نظرة الأوروبي اعتباراً من القرن الثامن عشر، ارتدت هذه الصورة ملامح المحبة والأخوة الدينية والإنسانية، هذا على الصعيد الثقافي، في هذا الوقت بالذات، بدأت الرحلات التي قام بها فنانون وسياسيون وعسكريون الى بلاد المشرق للتعرف عليه عن كثب ولاكتشاف ما في بطن أرضه من موارد، لاستغلال شعبه ونهب موارده و... فحلت نظرة جديدة الى المشرق وخصوصاً بعد منتصف القرن التاسع عشر، هي النظرة الإمبريالية. تلك نظرة اجمالية لمختلف المراحل التي مرت بها صورة المسلم في نظر الأوروبي، وكيف تطورت حتى عصرنا الحاضر والتي تضمنتها مقالة رودنسون الطويلة... والكتاب غني بالمواضيع الأخرى: الإسلام في عالم البحر المتوسط، والإسلام في أفريقيا، والتطورات الاقتصادية، الفن والعمارة والفنون الزخرفية والتصوير، وأثر فنون الزخرفة والتصوير عند المسلمين في الفنون الأوروبية، والفلسفة وعلم الكلام والتصوف والعلوم الطبيعية والطب والرياضيات والفلك والبصريات والأدب والموسيقى، والفكر السياسي عند المسلمين... الكتاب بأجزائه الثلاثة يمكن اعتباره بمثابة "انسكلوبيديا" خاصة "بتراث الإسلام" وإنجازاته على كل الصعد الثقافية والأدبية والسياسية والاجتماعية... وبمختلف التأثيرات التي حملها الى العالم المتوسطي أولاً والعالم كله ثانياً، في كافة المجالات الحيوية، حيث يمكن القول أن العالم الغربي مدين في نهضته وارتقائه لما ورثه من علوم وفنون وآداب وما خلفه عالم العروبة في شتى شؤون الحياة، وما ترجمه الغرب من هذه "التركة" التراثية.