المسجد الجامع في الإسلام يتميّز بطابع خاص يختلف عن المعابد في الديانات السماوية الأخرى. فهو ليس مكاناً للعبادة وأداء فرائض الصلاة وحسب، وإنما هو رمز لقيام الجماعة الإسلامية، ووحدة المسلمين، يجتمعون فيه لمناقشة أمورهم وأحوالهم حتى تلك المتعلقة بقضاياهم المصيرية، من هنا فأنه أيضاً مركز سياسي. وإنشاء مسجد جامع في بلد تم فتحه ونشر الدين الحنيف فيه، يعني أن هذا البلد أصبح جزءاً من البلاد الإسلامية وجب الدفاع عنه بأي ثمن. وأول مسجد بناه الرسول عليه الصلاة والسلام في المدينة بعد شهور من وصوله إليها في الثاني عشر من ربيع الأول من السنة الأولى للهجرة. وكان أهل المدينة قد أعطوا الرسول حق التصرّف في الأراضي المهملة التي لا ينتفع بها أحد. وانطلاقا من هذا الحق، وقع اختياره على أرض بور تنتشر فيها الأعشاب الوحشية والشجيرات، وفيها منخفضات تتجمّع فيها المياه الآسنة. كانت قطعة الأرض هذه ملكاً لمجاهد جليل هو أبو إمامة أسعد بن زراره. قام أصحاب النبيّ عليه الصلاة والسلام بتنظيفها وتمهيدها ليُبنى عليها أول مسجد في تاريخ الإسلام، ولم يكتف الرسول الكريم بذلك بل حثّ أهل المدينة المنوّرة على استصلاح جميع الأراضي المهملة وزراعتها، مما كان له أثر كبير في نهضة المدينة الإقتصادية وازدهارها. مساحة أرض المسجد كانت بادئ الأمر بطول 70 ذراعاً الذراع يساوي 52 سنتمتراً وعرض 62 ذراعاً أي 35 متراً × 5،31 متراً تقريباً. وقد جعل الرسول جداراً يحدد اتجاه القبلة نحو بيت المقدس أول الأمر، ثم حوّل القبلة باتجاه جنوبي نحو الكعبة المشرّفة. الجدار بُني على أساس عمقه نحو 5،1 متر، واستخدم في ذلك الحجارة المصقولة بينما بُنيت الجدران الثلاثة باللبن غير الممروق. كان ارتفاع الجدران 5،3 امتار، وقد جعل النبي في ناحية القبلة عريشة وجعل عندها أعمدة من جذوع الأشجار، ارتكز عليها سقف من عوارض الخشب غُطيت بجذوع من شجر النخل، طرح عليها سعف النخل. ثم حدد الرسول مكان المحراب في صدر جدار القبلة، وإلى جانبه بُني جزء مرتفع يعتليه الرسول لإلقاء الخطبة وهو ما عُرف بالمنبر. فتحت للمسجد ثلاثة ابواب: الاول في الجدار الشرقي ناحية الجنوب والثاني في الجدار الغربي مقابلاً للأول، والثالث فتح في وسط الجدار الغربي. وباختصار فان مسجد الرسول الأول يشتمل على خمسة عناصر أساسية هي: 1- مساحة مكشوفة هي ما يعرف بصحن المسجد. 2- قسم مغطى بالعريش الى الجهة الجنوبية، وهو ما يعرف ببيت الصلاة. 3- قبلة في الجدار الجنوبي يتجه إليها المصلّون عند تأدية الصلاة. 4- المحراب، وهو موضع في جدار القبلة مخصص للإمام. 5- المنبر، وهو مكان مرتفع يقع إلى يمين المحراب يقف عليه الخطيب في صلوات الجمعة والأعياد. ومن الدلالات البارزة على كون الرسول عليه السلام قد أراد للمسجد أن يكون المركز السياسي والمرجع الديني يستقطب المؤمنين من أهل المدينةالمنورة وغيرها من أنحاء البلاد، يلجأون إليه في كل أمر من أمورهم الدينية والدنوية، انه اتخذ في ناحية منه مسكناً له ولزوجاته، فبنى تسع غرف ملاصقة للجدار الشرقي في جزئه الجنوبي - كما يُعتقد - لا اتصال في ما بينها وإنما تفتح جميعها على صحن الجامع. ولم تكن للغرف أبواب خشب وإنما أرخيت عليها ستائر. وهذا يعني أن مسكن الرسول عليه السلام كان مفتوحاً دائماً أمام الجميع، لا حرج على أي راغب في لقائه من دون عوائق. وقد يكون حرص أهل الصفة من أصحاب الرسول على ملازمته، هو للإطمئنان عليه والإستجابة لأوامره ورغباته ليلاً ونهاراً. وقد بقيت هذه العناصر الأساسية معتمدة في جميع المساجد التي بنيت سواء في عهد الرسول او في العهود التالية على رغم التطور الذي طرأ على فن العمارة الإسلامية. هذه البساطة المتناهية في بناء المساجد كانت ترمز في الواقع إلى سهولة العقيدة الإسلامية ووضوحها. على أن هناك عناصر أضيفت إلى المساجد في ما بعد، ولم تكن أساسية، كالمئذنة والمبضأة والقباب. فمسجد الرسول في المدينة لم تكن له مئذنة. وكان الأذان يُرفع من أعلى منزل مجاور وهو منزل السيدة حفصة أم المؤمنين. أما بالنسبة للمبضأة، فيرى الدكتور حسين مؤنس "إنها كانت عقبة في المحافظة على نظافة المساجد كما ينبغي. وأن أوضاع المبضآت أو طرق الإغتسال والتطهّر لا تضمن الطهارة الكاملة، إذ من المفترض أن يدخل المصلّون إلى المساجد وهم أطهار". إلا أن وجود المبضأة في صحن المساجد أصبح تقليداً معتمداً في جميع المساجد من دون استثناء، كما اصبحت المئذنة والقباب جزءاً من المساجد. ويذكر المؤرخون الثقاة أن المساجد العديدة التي بنيت في المدينة أيام الرسول التزم في بنائها العناصر الأساسية الخمس التي تألّف منها المسجد الأول. كما ان المسجد الأول الذي أنشئ في الكوفة كان على غرار مسجد الرسول في المدينة. ولم يكن له بادئ الأمر جدران، وإنما حددت مساحة المسجد بحفر خندق يحيط بها ليمنع دخول الناس غير الأطهار أو الحيوانات. في السنة الثامنة للهجرة أمر الرسول بتوسيع المسجد، فأضيفت خمسة أمتار لجهة الشرق وعشرة أمتار لجهة الغرب وخمسة عشر متراً لناحية الجنوب. وبذلك أصبحت مساحة المسجد 2250 متراً. يذكر السمهوري في كتابه "وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى" القاهرة سنة 1909 أن أهم المساجد الجامعة التي بنيت في عهد الخلفاء الراشدين والعهد الأموي هي: - المسجد الجامع في البصرة، بناه عقبة بن غزوان سنة 14 هجرية الموافق سنة 635 ميلادية. جعل سوره من القصب، ثم أعاد بناءه أبو موسى الأشعريّ باللبن، ثم أعاد بناءه بالحجر زياد بن أميّة عام 44ه الموافق 665م. - مسجد الكوفة أنشئ عام 15ه 636م على يد سعد بن أبي وقاص، ولم يكن له جدران بادئ الأمر كما ذكرنا. ثم أعيد بناؤه بالقصب ثم في وقت لاحق باللبن وأخيراً بالحجر. - مسجد الفسطاط مصر، بناه عمرو بن العاص سنة 21ه 642م. وقد هدم هذا المسجد مراراً عدة وتم توسيعه. لذلك فإن المسجد الحالي يختلف كل الإختلاف عن المسجد القديم ولا يمت إليه بصلة، فهو حديث البناء. - مسجد عقبة بن نافع في القيروانتونس وقد بُني في الفترة من سنة 50 إلى 55ه 670- 675م. يذكر المؤرخون أن ثورات عدة قامت في وجه عقبة قاومها بشدة وأدّى ذلك إلى استشهاد الألوف من المسلمين. وكان لا بد للقائد المسلم من الدفاع عن القيروان بعد أن دخلت تونس في بلاد الإسلام وأصبحت جزءاً منها. وفي المقابل، نجد أن عبدالله بن سعد بن أبي سرج عندما فتح شمال السودان عام 31ه 651م لم ينشئ مسجداً جامعاً مما يعني أنه لم تقم في شمال السودان جماعة إسلامية ولم يكن هناك بالتالي إلزام في مواصلة الفتح ربما لأسباب عسكرية وظروف غير مؤاتية، لذلك تأخر دخول السودان في الإسلام فترة طويلة. الجدير بالذكر أن انتصار المسلمين وفتحهم أحد البلدان لم يكن يعتبرونه انتصاراً على عدو كما في الحروب عادة، وإنما كان مدعاة لشكر الله عزّ وجل الذي وفّقهم إلى نشر الدين. لذلك فان الخطب الأولى التي ألقيت في مساجد الكوفة والبصرة والفسطاط، اقتصرت على شكر الله من دون أي إشارة إلى غالب ومغلوب. فمن دخل في الإسلام بعد الفتح اعتبر نفسه منتصراً ومن بقي على عقيدة آبائه وأجداده احتفظ بكل حقوقه المدنية والدينية. وإذا كانت المساجد التي بُنيت في صدر الإسلام كانت متناهية في بساطتها، فإن المساجد الجوامع التي أنشئت على امتداد البلدان الإسلامية عبر العصور التالية، فإن الأمراء والحكّام الذين بنوا مساجدهم أرادوا إضفاء الفخامة عليها واقتصر ذلك على البناء وزخرفة المآذن والقباب مع التزامهم بالعناصر الخمسة التي عيّنها الرسول في أول المساجد بالمدينة المنوّرة. والبارز في هذا المجال أن طرز البناء والزخرفة كانت متميزة بطابع خاص بكل بلد. وعلى سبيل المثال هناك طراز أموي شامي وطراز عبّاسي عراقي وطراز مصري. وهناك الطراز الإيراني الذي بلغ ذروة المجال في العصر الصفوي. وهناك الطراز الهندي أو المغولي ونجده ماثل حتى اليوم في مساجد الهند وأضرحتها، مثل جامع "قطب منار" في دلهي وضريح التاج محل في أجار. وهناك طراز اللايو المتمثل في مساجد جزر أندونيسياوجنوب الفيليبين، وهي بلاد لم تصل إليها جيوش المسلمين، وإنما نشر الإسلام فيها التجار القادمون من جنوب الجزيرة العربية بفضل تعاملهم الصادق مع أهل البلاد. وهناك الطراز العثماني الذي تميّز بروعته في مساجد استنبول وبروسة وأدرنة وغيرها. وهناك الطراز التركستاني الرائع في مساجد سمرقند وبخارى وطشقند وغيرها من المدن التركستانية. وهناك الطراز المغربي الذي بدأ مع مسجد عقبة بن نافع في القبران. ثم تطور بعد ذلك تطوراً رائعاً في مساجد المرابطين والموحدين والسعديين والعلويين في بلاد المغرب الأقصى. ثم هناك الطراز الأندلسي الذي تطور في شكل رائع على سبعة قرون خلال قيام الدولة الإسلامية في إسبانيا. ولا بد من الإشارة إلى المسجد الجامع الذي بناه أخيراً الملك الحسن الثاني في المغرب وأراده فخماً باتساعه وزخارفه وأكبر مساجد العالم. ولا بد من الإشارة إلى مسجد الرئيس صدام حسين الذي قرر إقامته في بغداد ليكون أكبر مسجد في العالم. الواقع أن الحديث عن مختلف طرز المساجد الإسلامية في طول البلدان الإسلامية وعرضها يتطلب دراسة مستفيضة تتناول فن العمارة الإسلامية وبراعة البناة والمهندسين المسلمين في الجمع بين بساطة الداخل وعظمة الخارج. ولعل قصة الخليفة عمر بن الخطّاب مع بطريرك القدس الذي اشترط لتسليم المدينة إلى الجيش الإسلامي، أن يأتي الخليفة إلى القدس ليتسلم المدينة المقدّسة بنفسه. يومها دعا البطريرك ضيفه أن يؤدي الصلاة داخل الكنيسة فاعتذر الخليفة معرباً عن تخوّفه من أن المسلمين قد يحوّلون الكنيسة في ما بعد إلى مسجد. على أن هذه القاعدة خُرقت بعد هزيمة العرب في الأندلس وقيام الإسبان الكاثوليك بتحويل المساجد إلى كنائس. وكان ذلك رداً على ما فعله الإسبان الذين أرادوا استرداد بلادهم ومحو أي أثر ديني للفاتحين المسلمين. قد يكون الخرق الأهم في تاريخ الفتوحات الإسلامية ما فعله السلطان محمد الفاتح عقب استيلائه على القسطنطينية وتحويله كنيسة آيا صوفيا إلى مسجد تحول بعد ذلك في عهد أتاتورك إلى متحف يرتاده السيّاح الوافدون إلى تركيا. * كاتب لبناني.