تلقى السياسة الأميركية حيال العراق، كما يعبر عنها شفهياً، تفهماًَ اقليمياً ودولياً. لكنها لا تلقى التفهم نفسه كما يعبر عنها عملياً. والفارق بين المبادئ والتطبيق شكل ويشكل أساس سوء التفاهم بين الولاياتالمتحدة ودول المنطقة، ليس فقط في ما يتعلق بالعراق، وإنما خصوصاً في ما يخص عملية السلام بين العرب وإسرائيل. في هذا السياق، لا خلاف حول ضرورة تغيير النظام العراقي، أو بالأحرى حول التخلص من رئيسه ورمزه. ولكن عندما تتساوى إطاحة رجل بإطاحة بلد، فإن الخلاف واقع لا محالة. ولا خلاف حول ضرورة مساعدة المعارضة العراقية على تشكيل نواة لنظام بديل، ولكن عندما يترك أمر تنظيم المعارضة ل "سي. آي. اي"، فإن الخلاف حولها ينشب بين العراقيين أنفسهم قبل سواهم. ولا خلاف حول ضرورة التخلص من أسلحة الدمار الشامل طالما أنها في يد نظام ديكتاتوري متهور، ولكن يصبح عمل "أونسكوم" مجرد إطالة للأزمة وللحصار من غير طائل، بل عندما تعتمد لجنة ريتشارد بتلر بشكل أساسي على إسرائيل، فإن الخلاف وارد أيضاً لأن للحصار سلبياته ومضاعفاته على مجمل المنطقة وشعوبها، ولم يعد خافياً أنه حطم حياة الشعب العراقي وأفسد مستقبله. يعاني العرب من استمرار الأزمة ومن تصعيدها من حين إلى آخر. يعانون من استمرار النظام العراقي لكنهم يعانون بالمقدار نفسه من عشوائية التعامل الأميركي مع الأزمة. ويشعرون بأنهم محكومون بمعادلة تهور أميركي - عراقي تهدف دائماً وأبداً إلى تقييد المنطقة العربية وتغييب جهودها وطاقاتها، وبالتالي منعها من التفاعل مع نفسها ومع متطلباتها للنمو والاستقرار. ومن الطبيعي أن يتخوف حتى أشد المتحمسين لإسقاط نظام صدام من تبعات أي ضربة عسكرية واسعة للعراق، ومن وضع فوضوي غير متماسك قد يؤدي إلى حرب أهلية سترتد انعكاساتها على جيران العراق. كل ما يحصل حالياً هو نتيجة لانهاء حرب تحرير الكويت قبل أوانها وقبل بلوغ نهايتها المنطقية. إذ أن بقاء نظام صدام وتوليه تنفيذ القرارات الدولية وتفاوضه مع الأممالمتحدة حول "النفط مقابل الغذاء"، وقيام دول عديدة بالتفاوض لعقود نفطية معه وانتزاعه مذكرة تفاهم مع الأمين العام للأمم المتحدة... كل ذلك اعطى النظام مبررات لترميم شرعيته وتوضيح مستقبله. بالطبع عرف نظام صدام وتأكد مراراً أن المطلوب هو رحيله، لكنه تلقى كثيراً من الاشارات إلى أن بقاءه لا يزال يخدم المصالح الأميركية ولا يزال جزءاً أساسياً من معادلة المنطقة. وعلى رغم كل ما فعله بالبلد وبشعبه فإن هذا النظام لا يريد أن يرحل، وبالتالي لا يريد أن يحل المأزق الذي رمى فيه البلد والشعب. للمرة الأولى منذ ثماني سنوات لم يعد اسقاط النظام هدفاً سرياً. والأزمة الأخيرة جعلت الإدارة الأميركية والكونغرس يتوافقان بوضوح حول هذا الهدف. ولا شك أن الأطراف الاقليمية والدولية لا تعارض مثل هذا الهدف، ولكن، مرة أخرى، ينبغي ألا يقابل تهور صدام بتهور أميركي. والأهم، ان تؤخذ مصالح العرب في الاعتبار لأن الولاياتالمتحدة لا تستطيع ان تروّج سياسة متوازنة إذا كان هاجسها الدائم أمن إسرائيل وتفوقها العسكري وتعزيز ترسانتها من أسلحة الدمار الشامل.