الكتاب: الفرق الاسلامية وحق الأمة السياسي المؤلف: محمد ابراهيم الفيومي الناشر: دار الشرق - القاهرة 1998 تاريخ الفرق في الإسلام هو تاريخ الافكار السياسية التي قاد بعضها الى انعطافات مهمة في التاريخ الاسلامي على امتداده، إذ كيف يمكن أنكار التأثير البالغ لأفكار المعتزلة والشيعة والخوارج والمرجئة والقرامطة وعشرات الفرق الاخرى، ليس على صعيد الفكر الديني والحرث في ميادينه فحسب، وإنما على الصعيد السياسي في الأساس. كانت افكار هذه الفرق كلأ مباحاً، استثمره الخلفاء الأمويون والعباسيون على وجه الخصوص لتوطيد اركان خلافتهم وتثبيت سطوتهم بعدما انتهت الخلافة الشرعية فعلياً بمقتل علي بن ابي طالب في شهر رمضان عام 40 هجرية، على يد عبدالرحمن بن ملجم، وهو أحد الخوارج وهي فرقة مثلت مع الشيعة اكبر حركتين معارضتين في تاريخ الاسلام وعنهما تفرعت عشرات الفرق الأخرى. وهكذا وجد الأمويون في الموقف السياسي للمرجئة ضالتهم، فقد استسلم المرجئة للواقع الذي فرضه الأمويون الذين تحولت الخلافة على ايديهم الى ملك وراثي. فاختفت الشورى واغتصبت البيعة رغم انف العباد وبقبول المرجئة للحكم الأموي هيئوا الجو الفكري لقبول الحكم واشاعة الاستقرار. كانت المرجئة وهي فرقة نشأت في اعقاب مشكلة التحكيم مساندة لبني امية سياسياً، وعملت على صياغة موقف متوازن بين الشيعة التي رفضت دخول المجتمع الا بشروطها والخوارج الذين رفضوا كل من عاداهم ووضعوهم في دار الكفر مستأثرين لانفسهم بدار الايمان. لم يقل المرجئة بكفر مرتكب الكبيرة واعتبروا ان الايمان هو نطق بالشهادتين فقط بصرف النظر عن الاعمال. وعلى العكس من موقف الخوارج الذين شرَّعوا للخروج على الامام الظالم وقتاله، فإن المرجئة رأوا ان التابعين لإمام فاسد هم ايضا من المسلمين الصالحين، وان هؤلاء المسلمين ليسوا مطالبين بالخروج على هذا الخليفة وقتاله، وعليهم ان يتركوا الأمر لله فيما يتصل بحق الخلافة وعلى الرغم من انهم انكروا اخلافه الأمويين كسائر الفرق فإنهم اكتفوا بالقول ان الخلافة لست حقا شخصياً لأحد. ونتيجة لتسلل نفر من الشعوبيين الى صفوف المرجئة، تفرعت عنها فرق عدة بينها الغسانية والثوبانية والتومنية والمرييسيه، أما الجهمية التي تنتسب الى جهم بن صفوان فإنها تأتي في مقدم هذه الفرق ونادى جهم بأن الايمان عقد بالقلب وان الانسان ما دام مؤمناً بقلبه فلا يضره أن يعلن غير ما يبطن اذا ما خشي على نفسه أو ماله، وهو ما عرف فيما بعد بالتقية وهي اهم مبادئ الحركات السرية ووجدها اهل خراسان وفارس ممن دخلوا في الاسلام فرصة للتحلل من الفرائض كالصلاة والصوم والزكاة مكتفيين بالايمان بالقلب. من جهتهم أدرك الخلافاء العباسيون اهمية الدور الذي لعبه الفقهاء في مصائر الدولة فجعلوا التعاون بين دولتهم الجديدة والفقهاء ركنا اساسيا في سياستهم وسر ذلك - كما يرى المؤلف - أن العباسيين انما نالوا الخلافة وحافظوا عليها بقوة التحالف الذي نشأ بين العرب وارستقراطية الفرس الذين اعتنقوا الاسلام فأراحوا الخلافة من وطأة العصبيات القبلية العربية، فأدوا للناس ما تستوجبه الخلافة من مهمات دينية ورعوا الفقهاء رعاية يكفلون بها حماية رسمية لمذهب سنّي يوحد الجماعة، وقادوا الارتباط الوثيق بين السنّة والخلافة العباسية الى رفض الجماعات المعارضة للحكم العباسي للمذهب السنّي. ووقع النزاع علنا عندما حاول المأمون وخلفاؤه فرض المبادئ، التي نادى بها المعتز له واعتمادها مذهباً رسمياً واضطهدوا زعماء السنّة المعارضين لهذه المبادئ لكن الصراع انتهى بانتصار السنّة وبرهن ذلك على استقلال النظام الديني الاسلامي عن الخلافة وغيرها من المؤسسات الدينية. من جهة ثانية سعت الشعوبية الى بث الصبغة الفارسية عبر طبقة الكتاب العاملين في الدواوين الذين استخدمهم الخلفاء بوفرة في دواوين الدولة، وزاد نفوذهم مع زيادة نفوذ رؤساء الدواوين والوزراء. وحاول هؤلاء ان يفرضوا تقاليد البلاط الفارسي، وان يبعثوا البناء الاجتماعي الفارسي القديم، وهو بناء طبقي في الأساس، واستعانوا على ذلك بترجمة كتب فارسية ونشرها بين الناس. وفي ما بعد دخلت الشعوبية في مرحلة من الهجوم العلني على العرب، وتوجيه النقد الجارح للتقاليد والامجاد العربية. ولما تم النصر في مقاومة الشعوبية برزت خصائص المذهب السنّي الذي تمسك باستقلاله الروحي. وكانت النتيجة ظهور انقسام ظل كامناً لفترة طويلة بين النظام الديني والنظام السياسي. ولما اتسعت الهوة بين واقع الحكم السياسي والمعايير الخلقية في الاسلام اتضح لعلماء السنة انفسهم أن استقلالهم الروحي محفوف بالمخاطر وبات عليهم ان يسلموا بمزيد من التنازلات التي انتزعت منهم حفاظا على مبدأ الوحدة. اما الخوارج فهم اكثر الفرق ثورية وهم لم يقصروا الإمامة على قريش انما نظروا في صفات الامام الذي يجب ان يتصف بالكفاية والعدل واجتناب الجور، ومن خرج على إمام يتحلى بهذه الصفات وجب قتاله، أما اذا غير الأمام سيرته وعدل عن الحق، وجب عزله او قتله. وخطّأ الخوارج علياً في التحكيم وقالوا لا حكم إلا لله، وقالها له قاتله عبدالرحمن بن ملجم "الحكم لله يا علي لا لك ولا لأصحابك". ولعنوا عثمان لأنه ولّى اقاربه، ولأنه اتلف نسخ القرآن المختلفة. والى جانب الخوارج والشيعة وهما الفرقتان الكبيرتان اللتان تفرعت عنهما وانبثقت منهما عشرات الفرق الاخرى، ظهرت فرق الزندقة والاباحية ومنها الرزامية التي زعمت أن الإمامة بعد أبي العباس السفاح هي لأبي مسلم، وافرطوا في تمجيده وزعموا انه صار إلهيا بحلول روح الاله فيه، وأنه حيز من جبريل وسائر الملائكة وزعموا أنه لم يمت وانهم على انتظاره. ومنها المقنعية اتباع المقنع وهو رجل اعور ادعى لنفسه الالهية واحتجب عن الناس ببرقع من حرير وعاونه كفرة الاتراك على المسلمين واباح المقنع لاتباعه المحرمات وحرم عليهم القول بالتحريم واسقط عنهم الصلاة والصيام وسائر العبادات. ومنها "الحلمانية" المنسوبون الى أبي حلمان الدمشقي واصله فارسي واستباح لنفسه كل ما يستلذه ويشتيهه. ومنها الحزمية والباطنية والقرامطة وأصحاب التناسخ وغيرهم. وهكذا كان مقتل عثمان بن عفان وولاية علي بن ابي طالب حدثا فارقا في تاريخ الاسلام. وبمقتل علي بن ابي طالب انتهت الولاية الشرعية وحلّ السيف محل الشورى، واستبدت من جديد قيم العصبية والقبلية التي نفر منها الاسلام، واحل مكانها رابطة تقوم على الدين، وهي القيم التي غرستها الدولة الأولى للإسلام التي اقامها الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينةالمنورة. لكن عثمان بسبب لينه وتقريبه لأهله من بني أميه وجعلهم على امصاره واستحلال هؤلاء لأموال بيت مال المسلمين ومظاهر الترف والبذخ التي عاشوا فيها بسبب ذلك كله تدهورت الأمور وقتل عثمان وتولى علي وكانت الفتنة الكبرى ونشبت حرب اهلية تفرق على اثرها المسلمون احزاباً وشيعاً. كتاب الدكتور ابراهيم الفيومي يدرس هذه الفرق في سياقاتها التاريخية فلا يكتفي برصد افكارها توجهاتها إنما يتجاوز ذلك الى بيان أثرها وما حملته من دلالات سياسية أفاد منها الخلفاء واستثمروها لتوطيد ركائز دولتهم حتى وان اتسمت بالعسف والجور.