تدفع أحداث الاتفاق الكردي - الكردي في واشنطن، وتداعياتها، والتوتر التركي - السوري الراهن الى المقدمة، ومرة أخرى بالقضية الكردية، بوصفها أبرز عامل للتوترات الاقليمية بعد مسألة الصراع العربي - الاسرائيلي. وثمة كتاب عرب يؤكدون، وهم محقون، على استفحال المناورات الاجنبية، والاميركية بخاصة في المسألة الكردية، وتفاقم الاستخدام المكيافيلي المتعدد الأطراف لها. والبعض من هؤلاء الكتاب لا يرون من القضية الكردية غير محاولات الاستخدام الخارجي لها، ومساعي تحويلها الى ورقة في بازار المناورات، والمساومات، والتحالفات، التي لا علاقة لها بمصالح الشعب الكردي. ان ادانة هذه المحاولات، والمساعي واجب وضرورة، خصوصاً وان التجربة قد برهنت، ومنذ عقود من السنين، على أخطار هذه اللعبة، وعواقبها الوخيمة على الأكراد، وعلى شعوب المنطقة كلها. وللتذكير، فإن الغرب قد فرض ولأسباب تكتيكية محضة، معاهدة "سيفر" العام 1920، التي كانت تنص على إمكان قيام دولة كردية مستقلة في جزء من تركيا، وأحقية التحاق أكراد العراق بها. غير ان ذلك كان مناورة بريطانية مفضوحة، تعرّت بعد استحواذ بريطانيا على نفط العراق في أواسط العشرينات، ثم في معاهدة 1930 العراقية - البريطانية التي تجاهلت القضية الكردية تجاهلاً تاماً. والطائرات البريطانية هي أول من استخدم الأسلحة الكيماوية ضد أكراد العراق في العشرينات، بينما لعبت اميركا دوراً حاسماً في تحريض ايران الشاه على تدمير الكيان الكردي الذاتي في ايران 1946 - بداية 1947. وأميركا، وكما اسرائيل، والشاه تخلوا عن الحركة الكردية المسلحة في العراق بعد الاتفاق العراقي - الايراني عام 1975، مثلما تخلى بوش عن المنتفضين العراقيين، من عرب وأكراد، في آذار مارس 1991، بعد ان كان توجه لهم يدعوهم للثورة على النظام. على ان الدسائس والمناورات الاجنبية لاستغلال الورقة الكردية لا ينبغي التعكز عليها كما يفعل بعض الكتاب العرب لتجاهل وجود قضية حقيقية في المنطقة - هي القضية الكردية. فالأكراد شعب متميز قومياً، يشكل حوالى 25 مليون نسمة ويسكن منطقة جغرافية متكاملة وان كانت مجزأة. ومنذ القرن التاسع عشر اندلعت انتفاضات وتمردات كردية في كل من ايرانوتركياوالعراق، وشهدت هذه البلدان إمارات كردية ذات حكم ذاتي، كان آخرها إمارة "يشتكوه" اللورية - الفيلية التي قضى عليها رضا خان عام 1925، كقضائه على إمارة عربستان في المحمرة التي تزعمها الشيخ خزعل. وفي العراق اعترفت الحكومات العراقية المتعاقبة بأن للأكراد خصائصهم اللغوية والثقافية وطموحاتهم. وفي عام 1958 نص الدستور الموقت لعبدالكريم قاسم على ان العراق "شراكة" بين الشعبين العربي والكردي. وفي آذار 1970 اعترفت حكومة البكر - صدام بحق أكراد العراق في الحكم الذاتي. وهكذا، فإن القضية الكردية ليست لا نتيجة دسيسة خارجية ولا افتعالاً، وانما هي قضية شعب قائم وله كل مقوماته القومية وخصوصياته، وان لمطامحه كل المشروعية القانونية دولياً، بما في ذلك الحق في تأسيس دولة كردية مستقلة موحدة. اذ لا يمكن حجب هذا الحق عن شعب كالشعب الكردي مع الاعتراف به لسواه. لكن الصحيح ايضاً ان لمبدأ حق تقرير المصير صيغه وأشكاله الظرفية والمكانية. وفي هذه المرحلة من تاريخ المنطقة، وحتى لمستقبل منظور، لا يمكن للاكراد تحقيق قيام دولة كردية موحدة، سواء كان ذلك بسبب الحسابات والمصالح الدولية والاقليمية أو لأن ظروف الأكراد في كل بلد يتوزعون فيه تختلف عن ظروف أكراد الجوار. فمثلاً ان اكراد العراق أكثر ارتباطاً في التاريخ والاقتصاد بعرب العراق وبقية سكانه. وهكذا الحال بالنسبة للأكراد في البلدان الأخرى. وبناء على ذلك فإن الصيغة الأنسب مرحلياً لأكراد العراق هي في اطار العراق نفسه، سواء حكماً ذاتياً أو فيديرالية ادارية. كذلك اعتقد بالنسبة لحالتي تركياوايران. وإذا توهم عسكر تركيا امكان خنق قضيتهم الكردية عسكرياً عن طريق التصعيد الخارجي أو القمع العسكري، فإنما هو الامعان في نهج الخطأ الجسيم وفي الأوهام. ولا سبيل لاستقرار تركيا من غير الإقرار بحق الشعب الكردي في أراضيه والبالغ عدد أفراده حوالى 15 مليوناً، بالحكم الذاتي أو الفيديرالية داخل تركيا الديموقراطية الواحدة. ومن الجانب العربي فإن التحذير من مخططات التقسيم والفتنة يجب اقترانه بالإقرار الصريح بالحقوق القومية المتميزة. ولا يجدينا مجرد التذكير العاطفي بالاخوة المشتركة ما لم تتأسس على أساس الاحترام المتبادل للمصالح والحقوق والواجبات، وعلى أهمية الديموقراطية كضمان راسخ لهذه الأخوة... وتلك أوليات مبادئ العدالة والقانون الدولي وحقوق الانسان والشعوب. * كاتب عراقي مقيم في باريس