لم تكن تونس عشيّة الثورة نموذجاً للنجاح الاقتصادي كما وصفتها جهات ُمقرَّبة من النظام، ولم تكن حالةً من الفشل الذريع كما يزعم بعضهم اليوم. بل كان الاقتصاد التونسي أفضل حالاً مقارنةً بالكثير من دول المنطقة. فقد حقّقت تونس معدل نمو اقتصادي بلغ نحو5 بالمئة في خلال العقد المنصرم، متقدّمة بذلك على الدول الأخرى في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، كما تمكّنت من تقليص نسبة الفقر وتحسين مستويات الولوج إلى التعليم. لكنّ التوازن الاجتماعي في تونس اتّسم بالهشاشة وحمل في طياته بوادر عدم استقرار. واعتمد بقوة على عقد اجتماعي يوفّر النظامُ بمقتضاه حزمةً من المكاسب الاقتصادية والاجتماعية لشرائح كبيرة من السكان في مقابل تمتّعه بالاستقرار والشرعيّة. بيد أن هذا العقد الاجتماعي فَقَدَ جاذبيته وصدقيته لسببين رئيسَين. يتجلّى الأول في العجز المتنامي للاقتصاد على خلق فرص عمل لأفواج عريضة من ذوي الشهادات العليا الوافدين الى سوق العمل، وتفشّي الوظائف غير المحميّة ذات الأجور المتدنّية في القطاع غير النظامي. أما السبب الثاني فيتمثّل في تنامي التفاوت في الدخل والاختلال الخطير في توزيع الموارد العمومية على مختلف أنحاء البلد. وكي تنجح تونس في إعادة التوازن الاجتماعي، يجب أن ينتهز واضعو سياساتها الفرصة التاريخيّة لإعادة النظر في أُسُس استراتيجيتها الاقتصادية والتغلّب على أبرز تحدّياتها. لاشكّ في أن تحقيق التوازن بين الفعالية والعدالة الاجتماعية في رسم السياسة الاقتصادية، من جهة، وبين توفير مناخٍ جاذب للاستثمار وتطبيق مبادئ الشفافية واحترام القانون في ممارسة الأعمال، من جهة ثانية، أمرٌ في غاية الدقة. بالتالي، على الحكومة أن تطلق رزمة جديدة من السياسات والحوافز المتناسقة المقرونة بأهداف ملموسة وبجدولٍ زمني واضح لبلوغها. كذلك، يجب الاعتراف بأن خلق فرص عمل بوتيرةٍ مستدامةٍ لايمكن أن يتم عن طريق القطاع الحكومي، بل يحتاج إلى قطاعٍ خاص قوي وقادر على مجابهة المنافسة الخارجية. وفي الدول الصاعدة في آسيا وأميركا اللاتنية التي تُحقِّق معدلات نمو مرتفعة، تتخطّى معدلات الاستثمار الخاص نسبة 25 في المئة من إجمالي الناتج المحلّي. لكنّ هذه النسبة لا تتجاوز عتبة ال15 في المئة في تونس، حيث لاتزال الدولة تتحكّم بالجزء الأكبر من الاقتصاد عن طريق شبكة متداخلة من المساهمات في القطاع الخاص. ويجب أن يتصدّى واضعو السياسات جدّياً للعوامل المُعوقة للاستثمار الخاص المحلي والأجنبي، عبر تنفيذ الإصلاحات في المجالات الأربعة الآتية: أوّلاً، تحتاج تونس إلى مراجعة القيود المفروضة على الاستثمار في قطاع الخدمات، بهدف زيادة مشاركة الاستثمار الخاص المحلّي والأجنبي. بيد أن ولوج أنشطة خدماتية عدّة، منها التوزيع بالجملة وبالتجزئة، يبقى مشروطاً بمساهمة رأس المال في أغلبية رؤوس الأموال والحصول على الموافقة المُسبَقة من لجنة الاستثمار في تونس. وقد درجت أوساط الأعمال المُقرَّبة من بن علي على استغلال هذه القيود لتفرض نفسها شريكاً لابديل عنه للمستثمرين الأجانب. ثانياً، يُشكِّل ضعف النظام المالي التونسي عائقاً آخر أمام النمو اذ يزيد كلفة رأس المال ويُسبب تخصيصاً غير فاعل للموارد المالية المتاحة. كما تتحكّم الدولة بالمصارف الأساسية الثلاثة، ولاينفكّ القطاع الخاص يُعاني غيابَ شروط المنافسة والحجم المتنامي للقروض المتعثرة. ثالثاً، لابدّ للسلطات أن تراجع الحوافز الممنوحة بموجب قانون الاستثمار، وتطبّق تدابير داعمةً للاستثمار والصادرات تكون أكثر فعاليّةً واتساقاً وشفافيةً. في كلّ عام، تمنح الحكومة ما يعادل ال50 إلى 60 في المئة من قيمة الضرائب على أرباح الشركات على شكل حوافز ضريبيّة، لم تُفلح في رفع نسب الاستثمار الخاص أو وتيرة استحداث فرص العمل. رابعاً، يشكِّل التصدي لثقافة الفساد أمراً أساسيّاً لمستقبل تونس الاجتماعي والاقتصادي. فمكافحة الفساد تعني الحدّ من تفشي الرشاوى والتهرّب والاحتيال الضريبي وإخضاع الجميع من دون استثناء إلى القانون. ومع أنّ وسائل الإعلام ركّزت حصراً على الفساد المتفشّي في الدوائر المُقرَّبة من النظام السابق، إلا أن مشكلة الفساد ومحاباة الأقارب في تونس تتخطّى أوساط النظام الداخلية لتتسلّل إلى شرائح كبيرةٍ من المجتمع. ما يعني ان واضعي السياسات وغيرهم من الجهات المعنيّة بالموضوع يحتاجون إلى تطبيق استراتيجيّة شاملة لمكافحة الفساد. وتُعَدّ حملات التوعية العامة التي تشرح مساوئ الفساد وتأثيره السلبي في النمو الاقتصادي والاستثمار والمنافسة ضروريةً، ومع ذلك تبقى غير كافية. في ظل الصعوبات الاقتصادية والمالية الداخلية والخارجية التي تُلقي بظلالها على تونس، تبدو قدرة الحكومة على زيادة حجم استثماراتها محدودة جداً، خصوصاًوأن الجزء الأكبر من الموازنة مُوجَّه إلى الإنفاق الجاري وغير قابل لأي تقليص. ويبقى دور القطاع الخاص أساساً في رسم معالم المرحلة المقبلة. وعلى الحكومة حضّ نمو القطاع الخاص عبر إعادة تأهيل حقيقية لبيئة الاستثمار، تساهم في إطلاق العنان للمبادرة الخاصة وخلق نسيج اقتصادي تحظى فيه المنشآت الصغيرة والمتوسطة بالاهتمام والمواكبة المناسبَين. فبدل النموذج السابق الذي يقوم على توزيع الريع في مقابل الدعم السياسي، على الحكومة الآن أن تعمد إلى إخضاع الأسواق إلى المنافسة الحقيقية، وتخصيص الحوافز على أساس الفعالية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية. * باحث في مركز «كارنيغي» للشرق الأوسط - بيروت