أستخدم مصطلح «الإيديولوجية» بمعنى «الوعي الزائف» في هذا السياق، وأشتق منه صيغ التعريب، على طريقة عبد الله العروي، فأجعل من الفعل «أدلج» والمصدر «أدلجة» مرادفين لفعل تزييف الوعي، لكن بمعنى مزدوج ينطبق على فاعل النقد، أو الدارس الأدبي، وموضوعه، أي النص أو الظاهرة المدروسة وعلى هذا فإن أدلجة النقد هي العملية التي يندفع معها الناقد إلى تزييف وعيه في معالجة الظاهرة أو النص، وذلك عن طريق الاستسلام اللاشعوري، غالباً، لصيغ تبسيطية، أو تحت تأثير معتقد يفرض عليه نظرة ضيقة، أو آلية، إلى النص أو الظاهرة، والنتيجة هي تزييف وعي الناقد بما يدرس من ناحية، وتزييف وعي القارئ بما لا يجعله يفهم النص أو الظاهرة فهماً موضوعياً، أو تاريخياً سليماً ومعيار السلامة، في هذا السياق، هو عدم تعمده الفهم أو تعمقه، وعلامة غيابها هو الفهم أو التفسير الآلي للنصوص والظواهر، الأمر الذي يفقد القارئ عمق الإدراك والوعي بتعقد النص أو الظاهرة، واحتمالهما أكثر من تفسير، فالأدلجة، غالباً، قرينة نزعة وثوقية، أقرب إلى الأصولية في فهم النظرية التي يعالج الناقد، على هدى منها، الظواهر والنصوص، وجعلها موضوعاً لممارسته النقدية. ولقد سبق أن تكلمت، في قراءة نظرية منفصلة، عن عنصر المخايلة الايديولوجية الذي يمكن أن تنطوي عليه النظرية، فالنظرية النقدية يمكن أن تنحو في حالات غير قليلة، إلى إيهام ممارسيها بأنها تنطوي على كل شيء، وأن شمولها مطلق يجعلها تنطبق على كل زمان ومكان وعلى أي نص مهما كان، كأنها كتاب تعليمات حسب المرء أن يطبّق تعليماته الشاملة، فيجد فيها ما يعينه على فهم أو تفسير أي نص أو ظاهرة ومفارقة المخايلة الإيديولوجية تنبع، في هذا السياق، من أن كل نظرية نسبية، لأنها صياغة معرفية ترتبط بزمانها وتعين مكانها، ولا سبيل إلى أن تتصف بالإطلاق ما ظلت نتاج خبرة إنسانية لا تفارق النسبية، بحكم طبيعتها البشرية طبعاً هناك فارق بين نسبية وأخرى، ولكن صفة النسبية نفسها قائمة في كل الأحوال ولا سبيل إلى السلامة. إذا أراد الناقد اختبار الصحة النسبية لسلامة تفسيره أو فهمه (Verification) إلا القيام باختبار بسيط، تحدث عنه لوسيان جولدمان، في ثنايا حديثه عن منهجية البنيوية التوليدية، من حيث هي نظرية، فذهب إلى أن على الباحث الأدبي، أو الناقد، إذا انتهى إلى تفسير من التفسيرات، أو فهم النص على هذا النحو أو ذاك، أن يطرح على فهمه أو تفسيره مجموعة من الأسئلة المضادة التي تفترض عدم السلامة، فإذا استطاع الفهم أو التفسير أن يجيب عن أكثر من سبعين في المائة من الأسئلة المضادة، فإن الفهم أو التفسير يمكن أن يتصف بالسلامة (Validity) في هذه الحالة، وإلا فعلى الناقد، أو الدارس، أن يراجع الإجراءات التي قام بها، أثناء عملية الدرس، أو الممارسة النقدية، لعله يكون قد أغفل عاملاً من العوامل، أو عنصراً حاسماً من العناصر المكونة للنص أو الظاهرة وليس مع الناقد في عملية اختبار السلامة سوى ضميره العلمي، إذا جاز أن نتحدث عن الضمير في هذا المجال، أو أمانته المنهجية التي لا بد أن تدفعه للشك دائماً، ما ظل الشك سبيلاً إلى اليقين، فيضع ما وصل إليه من تفسير أو فهم، كما يضع نفسه، في حال فعل الفهم أو التفسير، موضع المساءلة وعندئذ، يكون أقرب إلى الموضوعية المنهجية، طبعاً بمعناها النسبي، ما دمنا في دائرة العلوم الإنسانية التي تتميز عن العلوم الطبيعية، مع بعض الاحتراس، بأن الذات الفاعلة فيها هي جزء من موضوع البحث، الأمر الذي يعني أن الناقد أو الدارس هو بعض ما يبحث أو ينقد، ما ظل متورطاً في موقف من الموضوع المدروس بأكثر من معنى. والمثال التقليدي الذي أضربه على أدلجة النقد هو ما انتهى إليه المرحوم عبد العظيم أنيس من أن «نجيب محفوظ هو كاتب البرجوازية الصغيرة، وليس المعبر عن القوى الاجتماعية الجديدة التي تكافح لكي تؤكد وجودها، أعني الطبقة العاملة المصرية ولكننا نظلمه ولا ننصف أنفسنا إذا لم نؤكد كذلك أنه روائي مصري قدير وفي تعبيره عن هذه الطبقة الاجتماعية ومشاكلها كان صادقاً رائعاً في معظم الأحيان» وما أيسر ملاحظة التناقض الذي يقع بين النصف الأول والنصف الثاني للفقرة، ففي القسم الأول نجيب محفوظ يوصف بالسلب لأنه كاتب البرجوازية الصغيرة، وليس المعبر عن الطبقة العاملة المصرية وفي النصف الثاني يوصف بالإيجاب لأن تعبيره كان صادقاً ورائعاً، فهو روائي قدير والعلاقة بين النصف الأول والنصف الثاني هي علاقة التركيب التي تجعلنا في وضع نفي للقيمة وإثبات لها في آن وتبدو الآلية في القياس التبسيطي الذي هو أقرب إلى القياس الأرسطي، فيأخذ الشكل الآتي: أ - الطبقة العاملة متميزة. ب - الطبقة الوسطى سلبية. ج - إذًا الاقتصار على الكتابة عن الطبقة الوسطى عمل سلبي. هكذا؟! ولكن من أين تأتي صفات الاقتدار والصدق والروعة في روايات نجيب محفوظ؟ أليس لأنه يكتب عن شريحة يعرفها وينتمي إليها، ويستطيع أن يعريها، وأن ينقدها، كاشفاً عن سلبياتها، وإيجابياتها، بما يمكن أن يكون إعلاناً عن عجز هذه الطبقة عن إحداث تقدم حقيقي لأنها لا تحل المشكلة الاجتماعية التي تعانيها من جذرها، على نحو جماعي، يمكن أن يكون ارهاصاً بضرورة تسليم الراية لطبقة أخرى ثم من أين تأتي صفات القدرة والصدق والروعة؟ أليس لأن نجيب محفوظ قد استطاع صياغة أنماط إبداعية لا تنسى، وأنه نفذ من تصوير الخاص إلى العام، واستطاع من تعمق دراسة النماذج البشرية الروائية مجاوزة حضورها الفردي إلى حضورها الإنساني الذي جعل هذه الروايات قابلة للترجمة، في ما بعد، والاستمتاع بها في كل لغات العالم التي ترجمت إليها، الأمر الذي أكد مع ما يوازيه استحقاق محفوظ لنوبل باختصار، نحن أمام نوع من أدلجة النص، ومن ثم أدلجة النقد ونحن نكتشف ذلك عندما نضع الوصف أو الحكم النقدي موضع المساءلة، فندرك عواره وفساده دون كبير إجهاد ولست في حاجة إلى تأكيد كثرة الروايات الرديئة التي أرادت تصوير القوى الاجتماعية الجديدة، الممثلة في الطبقة العمالية الصاعدة. والمثال الثاني الذي يمكن أن نأخذه مثالاً على أدلجة النقد، نراه في استجابات بعض الماركسيين الأصوليين من النقاد الذين يمكن أن يقرأوا عبارات مثل تلك التي أستعيرها من محمد حسين هيكل، حين قال: «وقد أعان ثورة الأدب أنها اقترنت بالثورة السياسية التي شبت في أثر الحرب الكبرى، إذ بدأت في 9 آذار (مارس) سنة 1919 ألم يكن المصريون يطلبون في ثورتهم هذه الاعتراف باستقلالهم وسيادتهم ويطلبون حياة سياسية وصوراً من الحرية السياسية على مثال ما في الغرب سواء؟ فلتكن مظاهر الفن والأدب مصبوبة عندهم في قوالب غربية، لتكون آية للناس جميعاً على تقدمهم وعلى أنهم يسابقون الغرب إلى مختلف ميادين الحضارة وقد يسبقونه». هذه العبارات يمكن أن يفهمها الناقد الماركسي فهماً آلياً، فيقول إن المصريين ليثبتوا تقدمهم للغرب أخذوا أشكاله الروائية، كي يؤكدوا أنهم لا يقلون عنه في شيء، خصوصاً بعد أن يملأوا هذه القوالب بما يؤكد استقلالهم وأنهم يطلبون حياة سياسية حرة، وصوراً إنسانية مصبوبة عندهم في قوالب غربية وما أسهل أن يجد الأصولي الماركسي، في قول هيكل، دليلاً على تبعيته الأدبية، ويعمم على جيله، فيرى أن هذا الجيل كان غارقاً في التبعية لأنه لم يفكر في إبداعه الذاتي، وتصور أن نقل الأشكال الغربية ليس سوى وسيلة من وسائل التبعية، خصوصاً أن هؤلاء الناقلين كانوا من المنتسبين إلى الطبقة الوسطى ونظرتها إلى العالم، وهي نظرة تصورت أن التقدم مرهون بتقليد الطريق الوحيد، وهو طريق الغرب الرأسمالي الذي انبهرت به هذه الطبقة، وذلك بعد أن تلقت الصفوة من أبنائها العلم عنه. وقد شاعت مثل هذه التصورات الإيديولوجية في كتابات من أطلقت عليهم، في كتابات سابقة، اسم الأصوليين الماركسيين. وقد غاب عن هؤلاء أن أهم تعريف للرواية أنها نص سردي مفتوح، لا يمكن ضبطه في معايير شكلية محددة وأن ما نسميه باستعارة الشكل الأدبي ليس عملية آلية بسيطة، تشبه استعارة وعاء للماء أو للطبخ، وإنما هي عملية معقدة، فالكاتب الوطني يتلقى الشكل الأدبي الوافد، ولكن بعد أن يقوم بعملية تأويل له، هي في ذاتها نوع من التدجين الذي يموضعه في الثقافة المستقبلة بما يجعلها تتقبله ولا ترفضه، ولهذا يصبح لشكل الرواية المستعار سمات محلية، لم تكن في حال وجوده الأصلي والدليل على ذلك شكل الرواية الذي نقله كتاب القرن التاسع عشر، من أمثال علي مبارك علم الدين وفرنسيس المراش غابة الحق وفرح أنطون الدين والعلم والمال لقد تعرّب الشكل المستعار عند هؤلاء جميعاً، وجرى تطعيمه بعناصر من الميراث السردي العربي، جعلت من الشكل الروائي في القرن التاسع عشر، ليس مجرد شكل يهدف إلى التسلية أو التعليم، على نحو ما اختزل عبدالمحسن بدر المحاولات الروائية للقرن التاسع عشر، وإنما شكل يهدف إلى تغيير المجتمع، وإنطاق المسكوت عنه دينياً واجتماعياً وسياسياً وثقافياً، في ما يخص العلاقة بين الأنا والآخر، وعندما أصبح لهذا الشكل الجديد، بعد تعربه، قبوله وشعبية عملية استقباله التي تصاعدت مع صعود الطبقة الوسطى في القرن العشرين، وفي السياقات التي أدّت إلى ثورتها سنة 1919، اكتسب هذا الشكل الروائي الذي لم يعد جديداً تماماً وظيفة مضافة، كان عليه أن يؤديها تحت تأثير الثورة، وهي أن يسهم في تأسيس أدب وطني، وكان ذلك واضحاً في الكتابات النقدية التي كتبها محمد حسين هيكل عن «الأدب القومي» قاصداً الأدب الوطني، وكانت هذه الكتابات تلح على استخدام عناصر محلية خالصة، والتركيز عليها، تاريخاً وطبيعة وعلاقات اجتماعية، لتكوين شكل يؤثر فيه مضمونه المحلي بقدر ما يتفاعل هو مع هذا المضمون، كي يصبح أكثر فاعلية في توصيله وكانت المصرية تعني العصرية في هذا الاتجاه الذي جعل من الأصالة الوجه الآخر من المعاصرة، فيما أطلق عليه عيسى عبيد عنوان «قصص مصرية عصرية» وهو عنوان يوضحه بقوله إننا إبان نهضة كبيرة أوجدتها حركتنا الوطنية، ومن شأن النهضة أن تحدث انقلاباً في العادات والتقاليد، وتغيراً في الميول والأفكار وقد ظهر ذلك في كتابة كثير من كتاب الناشئة الجديدة وهم متفقون معنا على ضؤولة آدابنا الحالية وجمودها ومتطلعون إلى آداب جديدة... غايتنا منها إيجاد أدب مصري موسوم بطابع شخصيتنا المصرية، ويمثل حياتنا الاجتماعية» ولقد كتب عيسى عبيد هذه الكلمات سنة 1921 في السياق المتلهب لثورة 1919 الذي جعله يؤمن أن إنتاج أدب مصري موسوم بطابع الشخصية المصرية هو الذي يمكن أن يكون هو الأدب الذي «يضارع» الآداب الغربية، وفعل المضارعة ينطوي على دلالة الموازاة والمناظرة والمساواة التي لا تخلو من إمكان المنافسة التي تبدأ من تحقيق الاستقلال والإبداع الذي لا يكون تقليداً لأحد.