كيف يمكن ألّا يكون البياض هو اللون الطاغي على المجتمع الذي تدور فيه أحداث رواية الكاتب المغربيّ مبارك ربيع الصادرة لدى دار الساقي؟ يفرض السؤال نفسه على قارئ رواية «أهل البياض» وهو يكتشف صفحة بعد صفحة كيف تغيب ألوان الحياة الأخرى متى انتشر الفقر والجنون والعهر والجهل، فيسيطر بياض محايد باهت لا يبشّر بولادةٍ تنبثق من ظلمة الرحم. وقد أحسنت مصمّمة الغلاف ماريّا شعيب التعبيرَ عن مضمون الرواية من خلال اختيار صورة تمثّل خيال إنسان بلا ملامح واضحة – كأنّه مستوحى من فيلم رعب - يتخبّط صارخاً في بياض عقيم يخشى ألّا يخرج منه فراشة حرّة، مع العلم أنّ دودة الحرير لا تتحوّل في بياض الشرنقة الذي نراه نحن بل في عتمة خيطان حبكتها حول نفسها ولم تُفرض عليها قيوداً. غير أنّ قارئ الرواية سيسأل نفسه عند الانتهاء من القراءة إن كانت شخصيّات الرواية تريد فعلاً الخروج من سجنها كما يوحي الغلاف أم هي مستسلمة لقدرها، تجترّ معاناتها وهي عاجزة عن تحطيم الأسوار التي تحيط بها. يمكن التوقّف عند ثلاث صور جامعة تختصر أجواء الرواية، ولا تعطيها حقّها في طبيعة الحال: صورة السلطة، صورة المرأة، صورة الرجل. فللسلطة مظهران طاغيان: أحدهما تمثّله الدولة والثاني يعبّر عنه الأب، وكلاهما عاجز ضعيف فاشل. فرجال الشرطة هم السلطة في الحيّ الذي تدور فيه الرواية، لكنّهم أعجز من أن يفرضوا هيبة أو يلقوا القبض على مجرم أو يحلّوا لغز اختفاء امرأة كانت تقف إلى جانب شرطيّ على ناصية الشارع. أمّا رئيسهم فخاضع لرغبته في النساء، متستّر على المغتصبين، يفتعل قضايا تتعلّق بالإرهاب وأمن الدولة لمجرّد إيجاد دور وإثبات وجود. ولا تختلف ملامح السلطة التي يمثّلها الوالد عن تلك التي تتميّز بها الدولة، فالوالد متسوّل أعمى يمضي وقته في أحاديث توفّق بين فتاوى الدين ومتع الدنيا، تاركاً ابنته القاصر تتجوّل في الشوارع وهي تبيع محارم ورقيّة وقبلات تطبعها على وجوه الناس مقابل ثمن. فكيف ينمو المجتمع الجديد (تمثّله الفتاة «فايزة») وينجو من الاعتداء على حقوقه وهو ضحيّة سلطتين من هذا النوع؟ توصلنا «فايزة» إلى صورة المرأة في رواية لا امرأة فيها تعِد بحبّ أو أمل. ف «فايزة» المتسوّلة تتعرّض لاغتصاب لا يريد أحد أن يعترف بحصوله، و «عيدة» زوجة أبيها ليست الأمّ التي تربّي وتحضن وتعالج، ما يجعل الفتاة أكثر قرباً من والدها، يستند إلى عينيها ومساعدتها لمقاومة عماه وفقره، وتنخرط هي في مجتمعه الذكوريّ بعيداً من طفولتها وبراءتها. وفي هذا العالم المستريح إلى فقره والباحث عن مقوّمات استمراره في متع الجسد أو غيبيّات الروح امرأتان أخريان: غيّاتة، العاهرة التي تبيع الرجال جسداً وتمنح مجنون البلدة عطفاً، و «راضية» التي اختفت في ظروف غامضة وحين «ظهرت» في الحيّ استقبلها الناس كصاحبة رؤيا يتبرّكون بها وهم يؤمنون بخطف من نوع آخر تنخطف فيه الروح وترى ما لم تره عين أو سمعت به أذن، لذلك زفّوها إلى زوجها كأنّها عروس لم تعرف رجلاً. هنا تبرع المعالجة الروائيّة في تصوير ساخر يبيّن المجتمع وهو يحتفي بالمرأة العاهرة ويحميها، ويحتفل بالمرأة التي اختفت ويسبغ عليها آيات الإجلال، في حين تواجَه الفتاة الصغيرة المغتصبة باتّهامات تدين قبلاتها البريئة، فلا تجد بالتالي من يدافع عنها أو يفتّش عمّن اعتدى عليها. أمّا صورة الرجل فتبدو من خلال أربعةٍ أساسيّين: الفقير المتسوّل «لبصير» والد «فايزة»، وصديقه صاحب الدكّان «محجوب» المتّهم باغتصاب الفتاة، ورئيس المخفر «الشاف حمّوني» الذي لا يتخطّى دوره كشاهد لا يريد أن يرى، وأبله الحيّ «ليشير» الشاهد الذي لا يريد أن يحكي. مع هذه النماذج تبدو نهاية الرواية في منتهى العفويّة والطبيعيّة كأن لا نهاية منطقيّة سواها: فتقرّر «سلطة» رئيس المخفر أن لا إثبات على حادثة الاغتصاب، وأنّ «فايزة» قد تتهم بالزنا لأن الناس شهود على تصرّفاتها في الشارع وهي توزّع قبلاتها عليهم، وأنّها ستسجن في دار الأحداث؛ وتجد «سلطة» الوالد أنّها أعجز من مقاومة سلطة الدولة، وأنّ «سلطة» صاحب الدكان الذي يديّن رجال الشرطة أقوى من كرامة الفتاة وحقّها؛ وينتبه الأبله إلى أن لا مكان له بعد الآن في الحيّ، فيلحق بفايزة ووالدها الهاربين من مجتمع نبذهما، و «يطير باتجاههما، رافعاً أذياله المرفوعة أصلاً، بجناحي ذراعيه يرفرف في الفضاء صوبهما، بكيان مغرّد ولحن طفولي يطير إليهما، يخترق ثنائيهما، يلفّهما بجناحي ذراعيه، يدفعهما معه في الطريق» (ص 391). لا تُعتبر النماذج البشريّة التي تتشابك مصائرها في هذه الرواية جديدة أو غريبة، ولا أحسب أنّ أحداً لا يزال ينتظر من أيّ عمل فنيّ نماذج لا تشبهنا أو تشبه الناس الذين يحيطون بنا، غير أنّ هذه الرواية نجحت في أن تكون مختلفة: بلغتها الأنيقة بلا تقعّر أو عرض معلومات مجّاني، وتحليلها اللمّاح بلا فلسفة أو حشو، وشخصيّاتها غير النادرة لكن المتميّزة في شبكة العلاقات المنسوجة بينها، وخصوصاً بمعالجة ذكيّة أظهرت الكاتب عيناً ترى وترصد بقدر ما أخفته خلف شخوصه، فنحن، وإن كنّا لا نجد أيّ تدخلّ مباشر منه في سير الأحداث، لا نستطيع أن ننفي أنّنا كنّا نشعر بوجوده، مشاهداً صامتاً محايداً، يعرف كيف يرى وأين يلتفت وماذا يختار وكيف يكتب، ولو من خلف زجاج مكتبه. أمر آخر من المهمّ التوقّف عنده في ما يتعلّق بلغة الرواية التي تجمع بين الفصحى والعاميّة وهو من طبيعة العمل القصصيّ؛ فالرواية نجحت، ببراعة وذكاء، في ألّا تجعل العاميّة عائقاً أمام من لا يعرفها، فثمّة انسيابيّة شاعريّة وحِرفة في تمرير المفردات العاميّة بين طيّات الفصحى المحكمة السبك تكشفان التأنّي في كتابة الرواية، وتفرضان على المتلقّي تأنيّاً مقابلاً، ولكن ليس على حساب متعة القراءة التي ترسّخ شخصيّات الرواية في البال نماذجَ إنسانيّة معبّرة، لا شيء يعيقها عن إثبات وجودها في تاريخ الرواية العربيّة.