تدرك الإدارة الأميركية أنها لا تستطيع، بغض النظر عن كمية ونوعية القرارات الصادرة عن مجلس الأمن الدولي، تغيير سلوك القيادة الكورية الشمالية في ما يتعلق بالملف النووي والعودة الى طاولة المحادثات السداسية ما لم تقرر بكين الدخول بقوة على خط الضغط الجدي ضد بيونغ يانغ. والقيادة الصينية لن تقدم على مثل هذه الخطوة الجذرية. والسبب في ذلك لا ينبع من التقارب الايديولوجي بين البلدين الجارين، فالشيوعية في الصين باتت نظاماً للحكم الداخلي ولا دور لها في السياسة الخارجية. بل كل ما في الأمر أن بكين تخشى من انهيار الوضع الداخلي في كوريا الشمالية، ما يعني تدفق ملايين اللاجئين باتجاه الأراضي الصينية، ولكن الأهم احتمال اقدام كوريا الجنوبية على توحيد شطري البلاد وبالتالي تحول شبه الجزيرة الكورية الى قاعدة متقدمة للولايات المتحدة الاميركية التي لها آلاف الجنود هناك. ومثال المانيا حيّ في ذاكرة القادة الصينيين! وتفضل الصين ان يبقى الوضع في كوريا الشمالية على حاله سواء بقيادة الرئيس كيم جونغ ايل أو من تختاره النخب الحزبية والعسكرية في بيونغ يانغ. وكانت بكين على مدى العقود الماضية تقدم كل المساعدات الضرورية حتى لا تدخل كوريا الشمالية في الفوضى، وفي الوقت نفسه تدفع باتجاه حلول سياسية للتوتر في تلك المنطقة. ومع أنها ترفض من حيث المبدأ امتلاك الشطر الشمالي للسلاح النووي، غير انها لا تمانع في احتواء الموقف من دون الوصول الى القطيعة والحصار كما ترغب واشنطن. والادارة الاميركية تعرف تماماً طبيعة المخاوف الصينية، وتعرف في الوقت نفسه ان الوضع الحالي يمكن أن يوظف استراتيجياً في خدمة المصالح الاميركية في جنوب شرقي آسيا التي تقوم في جانب أساس منها على مواجهة صعود المارد الأصفر الذي بات لاعباً كبيراً في الاقتصاد العالمي، وهو الأمر الذي سيترجم بنمو القدرات العسكرية كما شاهدنا اخيراً عندما احتفلت الصين بذكرى نشوء القوات البحرية معلنة أنها في صدد بناء جيل جديد من حاملات الطائرات والسفن الحربية «لحماية المصالح الصينية حول العالم». تتحرك واشنطن الآن باتجاهين متوازيين: أولاً، العمل من خلال المجتمع الدولي، وبالتحديد عبر مجلس الأمن، لفرض مزيد من العقوبات على كوريا الشمالية. وهي تعلم علم اليقين ان بكين لن تجاريها الى الحد الأقصى، وأنها ستخرج على الاجماع الدولي (ربما تؤيدها روسيا في ذلك) في حال شعرت بأن الأمور وصلت الى نقطة الانكسار. ثانياً، فإن الادارة الاميركية تنسق في تلك المنطقة مع عدد من الحلفاء كاليابان وكوريا الجنوبية واستراليا وتايوان من أجل صياغة استراتيجية «دفاعية» جديدة هدفها المعلن مواجهة الترسانة النووية والصاروخية في كوريا الشمالية. وتتضمن الاستراتيجية «الدفاعية» هذه ثلاثة عناصر اساسية: تعزيز وجود القوات الاميركية في جنوب شرقي آسيا وإعادة تموضعها في ضوء «المخاطر» المستجدة. تطوير منظومة دفاع صاروخي تشارك فيها الدول المذكورة اعلاه، وربما تنضم اليها لاحقاً دول أخرى كالفيليبين وأندونيسيا وغيرهما. وأخيراً وليس آخراً، تحديث تسليح قوات هذه الدول وتزويدها بالمزيد من الطائرات المقاتلة والسفن الحربية. غير أن المراقب المحايد يستنتج على الفور ان المقصود بكل هذه الخطط هو الصين وليس كوريا الشمالية، تماماً كما ان روسيا تؤمن بأنها هي المستهدفة بالدرع الصاروخية الأميركية في بولندا وتشيكيا وليس ايران كما تقول الولاياتالمتحدة. ولا شك في أن الصين مدركة لأبعاد هذا الحراك الأميركي، ولذلك فهي حريصة الآن على مجاراة الولاياتالمتحدة والدول الأوروبية في مجلس الأمن بفرض عقوبات لم تصل بعد الى حد المواجهة الجدية مع كوريا الشمالية. وفي الوقت نفسه ستراقب بدقة أي خطط عسكرية واستراتيجية، خصوصاً في اليابان وتايوان وكوريا الجنوبية، حتى لا تكتمل حلقة الحصار تحت قناع التصدي لنظام كوري شمالي لا يمكن توقع ردود فعله! * صحافي من أسرة «الحياة»