تعوَّدنا أن نبكي على الأطلال وراء كل نكبة أو كارثة أو نكسة، وأن نندب حظوظنا بعد كل أزمة أو مشكلة مستعصية، أو أن نبكي كالنساء ملكاً مضاعاً لم نحافظ عليه كالرجال. ولكن هل اتعظت هذه الأمة بعد التسونامي الذي ضرب المنطقة، أو أن حليمة ستعود الى عادتها القديمة بعد الزلازل والثورات والانتفاضات والاضطرابات التي امتدت من المحيط إلى الخليج؟ بعيداً عن عادات جلد الذات ونوبات التشاؤم التي تنتاب العرب بين الآونة والأخرى، ومن دون المبالغة في التفاؤل أو استسهال الأمور وعدم الاهتمام بخطورة ما جرى وما يجري، فإن علينا واجب الدعوة لرفض موجات اليأس ومجابهة محاولات التيئيس والتأكيد على وجود آمال بنهوض العرب من جديد وانطلاقهم نحو أفق جديد وغد أكثر إشراقاً إن فهموا حقيقة الأمر ودرسوا أبعاد الثورات ومسبباتها وأخذوا منها الدروس والعبر وتخلوا عن السلبيات التي عاشتها الأمة العربية خلال عقود مضت، وبالتحديد منذ بداية القرن الماضي، وابتعدوا عن الأخطاء والخطايا التي ارتكبتها معظم الجهات والفئات والأنظمة، والتي أدت إلى خراب البلاد وإذلال العباد وانهيارهم وتخلفهم سياسياً ومالياً واقتصادياً وعلمياً. فالتجارب التي مرت بها الأوطان علمتنا أن الأمل كبير بالنهوض وأن العرب صخرة صلبة تتكسر عليها موجات الأزمات والمؤامرات والحروب والكوارث، لكن الثمن الذي دفعته الشعوب على مر العقود كان باهظاً ودامياً، لدرجة أن البعض منا قد استسلم لليأس وردد مقولة الزعيم الوطني المصري سعد زغلول باشا الشهيرة لزوجته السيدة صفية عندما اشتد عليه المرض: «غطيني يا صفية... ما فيش فايدة». ورغم أن أجيالاً بكاملها عاشت المآسي ولم تفرح يوماً إلا وحزنت بعده أياماً وشهوراً وسنين، ولم تلتقط أنفاسها لحظة حتى انهالت عليها الويلات لتكبت أنفاسها وتقبض على خناقها، فإن عليها ألاّ تستسلم لليأس، وألاّ تصل إلى هذا الدرك بمثل هذه السهولة والبساطة. وما حدث أخيراً على امتداد الوطن العربي يثبت أن الأمل كبير بالأجيال الصاعدة وبالشباب الذين خيل لنا أنه ضائع وتائه وربما تافه لا سمح الله، أو أنه مقسم إلى منحرف ومتطرف ومستسلم وغير مهتم بكل ما يجري حوله، لدرجة أن البعض من الذي كنا نظن أنهم كانوا في طليعة الثوار والتقدميين والليبراليين وفي قمة النضال والوطنية والحماس لقضايا الأمة، وفي مقدمها قضية فلسطين، أصبح يردد في السر والعلن أن الوضع ميؤوس منه وان الإحباط هو سيد الموقف. والرد على هذا يكون بالتعقل والحكمة والتأكيد بأن الأمل مازال قائماً، وان علينا أن نردد دائماً: لا للاستسلام ولا لليأس والإحباط ولا لإفساح المجال للعدو الصهيوني وغيره لكي يهزم هذه الأمة ويشيع أجواء اليأس، فرغم المظاهر السلبية وسلسلة التراجعات والتنازلات والهزائم والأزمات والصدمات، لا يحق لنا إعلان وفاة العرب، بل ان ما جرى أخيراً حمل إعلان ولادتهم من جديد ومعهم شعاع أمل بالنهوض. ورغم تعنت إسرائيل وقضمها للأراضي العربية المحتلة، ومواصلة تهويد القدس الشريف وتدنيس المقدسات، وفي مقدمها المسجد الأقصى المبارك أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، فإن شعلة الحرية لم ولن تموت، وأنه لا يصح إلا الصحيح في النهاية مهما عظمت التضحيات وتزايدت التحديات واستمرت التعديات. فقد كتبنا من قبل وأكدنا على صلابة صخرة الأمة، ونعود لنكرر انه على رغم غياب العدالة وشيوع سياسة ازدواجية المعايير والكيل بمكيالين، فإن الأمل يبقى كبيراً بقدرة العرب على النهوض، ويبقى الإيمان عامراً في قلوب المؤمنين بعدالة السماء، وبأن لكل ظالم نهاية، وان الله يمهل ولا يهمل. فقد واجه العرب منذ أكثر من قرن،المؤامرات الخارجية لتحجيمهم ومنعهم من إقامة وحدة وتكامل في ما بينهم، منذ سايكس بيكو حتى يومنا هذا: حدود وهمية صارت مقدسة، وخلافات ما أنزل الله بها من سلطان، وسياسة فرق تسد، غذاها الاستعمار بشكليه القديم والحديث، ونُفذت بأيدٍ عربية ووجوه متآمرة تختفي وراء أقنعة شعارات براقة قد لا يرقى إليها أي شك. عاش العرب قرناً كاملاً من الظلم والقهر والنكسات والهزائم المفروضة عليهم فرضاً، بعد قيام إسرائيل وضياع فلسطين، وما زال الظلم مستمراً والمؤامرة متواصلة الحلقات والفصول. نسي العرب أو تناسوا كل هذا الظلم وخاضوا معركة السلام عبر المبادرة التي ما زالت قائمة وهم يحلمون بغد مشرق، ومنطقة آمنة لا حروب فيها ولا اضطرابات، ظناً منهم، عن حسن نية، أن الذئب الصهيوني يمكن أن يغيّر جلده ليتحوّل إلى حمل وديع يمكن التعايش معه. رغم كل هذا، يجب أن لا نيأس، ومن يقرأ التاريخ يستوعب دروسه وأحداثه، فيدرك أن لكل جواد كبوة، وأن الأمة شهدت على الدوام ولادة نور يجدد لها أمجادها وإيمانها ويعيد لها حقوقها بعد تحقيق وحدتها ونصرها على الأعداء بإذن الواحد الأحد. وعاش العرب عقوداً من الظلم والفساد والتفتت والديكتاتورية والفردية والتخلف والفتن والإرهاب والتشريد، وكان الكل يراهن على أنهم قد «دجنوا» وتحولوا إلى حيوانات أليفة مطيعة لجلاديها، فإذا بالثورات الأخيرة تفشل كل الرهانات وتصيب الظالمين في مقتل وتوقعهم في شر أعمالهم. وهناك بصيص نور يشع من عدة مواقع تدفعنا للأمل بنهوض الأمة، بعد سلسلة الإصلاحات والمصالحات، بدءاً من المصالحة الفلسطينية–الفلسطينية، التي ندعو الله أن يديمها ويثبت أقدام دعاة الخير والمحبة حتى يستعيد الإخوة الفلسطينيون وحدتهم ليقفوا صفاً واحداً في وجه العدو الغاصب بعد أن كاد التشرذم يدق المسمار الأخير في نعش القضية الواحدة. كما ان انتخاب أمين عام جديد لجامعة الدول العربية يمنح الأمل بتدفق دماء جديدة في أوصالها بعد أن شاخت وهرمت وتحولت إلى مؤسسة معاقة وجامعة مفرقة وبطة عرجاء. والأمل بأن يثبت الأمين العام الجديد نبيل العربي أنه سيكون اسماً على مسمى حتى يعيد للجامعة هيبتها وقدرتها على إثبات وجودها لتستحق اسمها «بيت العرب» ويعيد للعربي كرامته وثقته بنفسه وبأمته وبجامعته. ويبقى الهم الاقتصادي والاجتماعي الهاجس الأكبر لكل إنسان عربي، ولا بد من الخوض فيه في مقال آخر، لكن ما يهمنا اليوم هو إشاعة الأمل بنهضة الأمة ونهوض المواطن، واستخدام الأوراق الكثيرة التي لم يحسن العرب استخدامها، أو انهم لم يستخدموها أصلاً. كما يهمنا أن نؤكد أن الظلم لا يدوم، وان لكل ظالم نهاية مهما تكبر وتجبر. فالفجر آت لا محالة مهما طال الزمن، والبشائر كثيرة وواعدة، فما ضاع حق وراءه مطالب، ومن يعتصم بحبل الله فلا غالب له... والمؤمن لا ييأس مهما اشتد الظلام، وتفاقم الظلم. * كاتب عربي