إذا كان الزميل غسان شربل شعر بحشد من الكلاب الضالة والمتفجرات والارتكابات وهو يعيش حقبة الرعب القذافية التي فتح خزائنها وزير خارجية ليبيا ومندوبها السابق لدى هيئة الأممالمتحدة عبدالرحمن شلقم، فكيف ستكون مشاعر المواطن الليبي بصفة خاصة، والعربي على وجه العموم بعد قراءة الفصول الأربعة من حديث السيد شلقم، عن أحداث 37عاماً قضاها في ترميم خزعبلات القذافي السياسية ومعايشته لمؤامرات واغتيالات العقيد التي كادت إحداها أن تقضي على حياته لولا لطف الله وذكاؤه وموهبته الفطرية. سيتساءل المواطن الليبي عن الانقلاب في العقل الذي حدث للعقيد، كيف تحول التواضع إلى غطرسة، وتَغَيّر اللباس الرياضي البسيط إلى مهرجان من الألبسة المزركشة والكوفيات المطرزة؟ ولماذا تحولت الصداقات والنوايا الطيبة إلى مؤامرات واغتيالات وأحلام بمطاردة الآخرين والإضرار بهم؟ كيف تبدلت أحلام العقيد في تسخير موارد الوطن لبناء الإنسان الليبي ودور العلم والمصانع والمستشفيات والمساكن، إلى مطاردة أوهام زعامة عربية وافريقية أنفق عليها خيرات الوطن، لشراء الضمائر المفروشة التي تشبه الشقق المفروشة كما قال عبدالرحمن شلقم، وما الجريمة التي ارتكبها الشعب الليبي في حق العقيد حتى يتركه يترنح في أحوال من العوز والضيق والتخلف وكبت الحريات؟! تطورت أوهام حماية القوة الغيبية لدى العقيد حتى جعلته يسرح ويمرح دون حدود مطلقاً العنان لعقل مهزوز ويد طائشة، ولسان يقول ما يشاء من دون رقيب ولا حسيب، تحولات سيكيولوجية بحاجة لمراجعتها من لجنة حكماء وأطباء، فكيف تمتزج البساطة بالغطرسة، والحكمة بالسذاجة، وصلاة وصيام وامتناع عن شرب الخمر، وبعد الحمد والاستغفار والتأمل قتل وتآمر واعتراف بالرشوة لشراء الضمائر؟! حكم بلا أوراق، مراسيم بلا توقيعات، معاهدات من دون التزام، حكم مطلق مفتوح على الأبدية، الشعب هو الحاكم هكذا ينطق العقيد، وإدارة الهواتف تؤكد أن كل شيء بيد القائد وتحت أمره وفي حكم تصرفه وهذا ما يحكيه الواقع! خيمة وقصور، مزارع وجمال، طائرات وأبناء وبنات، وأقارب وأبناء عمومة يفعلون ما يشاؤون، يسرحون ويمرحون والعقيد متوسد عباءته في الخيمة يقرأ على الشعب الليبي قبل أن يخلد للنوم فصولاً من الكتاب الأخضر عن الرؤية والعقائد السياسية المطمئنة بمستقبل مشرق. وهاهي أحلام العقيد المقلوبة رأساً على عقب تتحقق أمام سمعه وبصره، والكتاب مخضب بالدماء، ولا أدري لو كتب الله للعقيد عمراً وحكماً ماذا سيقول وماذا سيفعل، والسؤال المهم هل سيتغير أم أن الطبع يغلب التطبع؟! ما حكاية العقل العربي والفكر التآمري في السياسة والاقتصاد والعلاقات الشخصية والعامة، وما حدود الفهم المطلق وحقيقة النبوغ لدى بعض الحكام العرب الذين جعلوا من أنفسهم مرجعية سياسية وقانونية واقتصادية وعسكرية وحتى فنية ورياضية؟! الشعوب العربية بحاجة إلى فهم ومعرفة لمبادئ وأساليب إدارة الحكم في أوطانها حتى تستطيع الاطمئنان للمستقبل، فكلما جن ليل على نظام حكم عربي وطار وانكشف الغطاء، تجرع الشعب مرارة تاريخ شجرة الحنظل وعاش في فوضى العلقمة. تجرعت الشعوب العربية على مدى قرن من الزمان مرارة علقم حروب واغتيالات، خيانات ومؤامرات، تصفيات واتفاقيات، انقلابات وتقسيمات، وما زلنا نعيش بعد ذاك القرن الحالة نفسها، كل شيء من حولنا تغيّر إلا الأَشجار العربية لا تزال تموت واقفة! على رغم أن وثائق ويكيليكس مائدة سياسية عالمية، إلا أن عالمنا العربي وكالعادة كان له نصيب وافر من فضائحها، وستكشف الثورات العربية – كما بدأها عبدالرحمن شلقم – أطناناً من الوثائق السرية ومجلدات من الروايات والقصص والحكايات، إذا لم نروها فسيرويها الآخرين ولو بعد حين. ما سنندم عليه كثيراً، أن جيراننا الإيرانيين والإسرائيليين وانضم إليهم الأتراك أخيراً، كانوا أكثر ذكاءً وإخلاصاً لبلدانهم وقضاياهم، أما العرب فلا أقول - معاذ الله – أنهم أغبياء أو متخاذلون في حب الأوطان، بل على العكس تماماً فهم أكثر شعوب الأرض نظماً للقصائد والتغني بالولاء والإخلاص والمحبة والبكاء على الأوطان. لكن الأرض «بتتكلم عربي»، والوثائق عبر مئة عام «بتتكلم عربي وانجليزي وفرنسي وروسي وأميركي»، وشلقم «بيتكلم عربي» ، وسائق الرئيس في القاهرة يروي «حواديت الليل» بالعربي، واتفاقية بيع الغاز المصري بثمن بخس جنيهات معدودة تُرجمت للعربي، وغسان شربل المرعوب من حديث أعوان صدام حسين، والمحبط مما سمع عن مغامرات وأسرار العقيد، هو ذاته مفجوع وموجوع (قال أو لم يقل) من بيع وطنه الجميل في المزاد الدولي العلني، فلم يعد أحد في لبنان يسمع قصيدة «شام يا ذا السيف» للشاعر سعيد عقل، أو «يا شام عاد الصيف» للأخوين رحباني، ولم يعد مسموحاً للجيل الحالي قراءة سيرة أبطال النزاهة والحرية؛ لأنهم قتلوا بسيوف الخيانة والمصالح الطائفية، حتى فيروز، الصوت المستقل بحب لبنان الوطن، التي ألقت التحية على الشمال والجنوب، واحتضنت بيروت بقلبها واحتضن الشام عقلها، لم يعد بمقدورك سماعها في المقاهي والأماكن العامة؛ لأنها أصبحت من شعارات ومبادئ الوحدة اللبنانية الممقوتة. «قلبي معاك» يا غسان... وإلى الملتقى في أحضان علقم عربي جديد! * كاتب سعودي [email protected]