لنقل جدلاً إن حذر الرئيس باراك أوباما في ردوده على المفاجأة الإيرانية التي تلت الانتخابات الرئاسية كان في محله - أقله في بداية الأمر وعلى الصعيد العلني. إنما الآن، وبعد مرور أسبوع على التطورات التي قد تحمل في رحم المفاجأة الأولى مفاجأة أكبر، يجب على الرئيس الأميركي أن يكون أكثر حكمة وحذراً، وأن يعود إلى طاولة رسم السياسات ليعد سيناريوهات واقعية محتملة غير تلك التي صاغها قبل المفاجأة. تكبيل نفسه في الرؤية أو التصور الذي أعدّه للتعامل مع ايران ليس في مصلحته، ولا هو في المصلحة الأميركية، لا سيما أن المنطلق الاساسي له هو احتضان الجمهورية الإسلامية - بملاليها في الحكم وثوارها في الرئاسة - لتنساق راغبة إلى التعاون والحوار والتفاهم اليوم. ان باراك أوباما مُطالب بأن يقرر أي إيران قد وضع السياسات الحكيمة لاحتضانها - أهي إيران الجمهورية الإسلامية بملاليها القدماء أو الجدد، اصلاحيين كانوا أو متزمتين، في تعلقهم بالحكم والسلطة؟ أم هي إيران الانقلابيين على النظام الذي أتت به ثورة 1979، وهم، بمعظمهم، أبناء وبنات لأمهات وآباء شاركوا في تلك الثورة ضد الشاه قبل التهام الملالي لها وتحويلها قطعاً إلى سلطة وسلطوية دينيتين. فإذا استخف باراك أوباما بجيل التغيير في إيران وافترض سحابة في انتفاضة «تويتر»، قد يُصاب بمفاجأة بحجم تلك التي أتت بها ثورة «شريط التسجيل» قبل ثلاثين سنة تماماً. وإذا افترض أن الرئيس الحالي محمود أحمدي نجاد سيبقى في السلطة في كل الأحوال، على أوباما أن يتوقع من احمدي نجاد تصلباً وتشدداً تجاه الولاياتالمتحدة في أعقاب ما حدث، مهما حاول الرئيس الأميركي أن يتمسك بالحذر تجنباً وصداً لتهمة التدخل في الشؤون الإيرانية. عليه أن يتوقع من ملالي طهران بقيادة المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي القيام بإجراءات استباقية أو انتقامية، ليس في العراق أو أفغانستان بالضرورة، وإنما في فلسطين ولبنان. عليه التنبه والتيقن واليقظة إلى توريط إيراني - إسرائيلي للولايات المتحدة لنسف اصرار باراك أوباما على صنع السلام في المسألة الفلسطينية. وعليه أن يستبق سياسات استباقية كي لا يجري وراء الأحداث كما فعل سلفه جيمي كارتر في إيران قبل 30 سنة. فإيران الصاخبة اليوم بتظاهرات هادئة تصنع مستقبلها وتحيكه مفاجآت يوماً تلو الآخر. لذلك من بالغ الأهمية للرئيس الأميركي ألا يضع نفسه رهينة «المقايضة الكبرى» التي تصورها ودعامتها ضمانات يقدمها إلى نظام الملالي بعدم دعم الولاياتالمتحدة للمعارضة الإيرانية وبعدم العمل على ازاحة النظام. سيضطر باراك أوباما إلى نسف الدعامة الأولى في سياسة «الصفقة الكبرى» حتى وإن بقي الملالي في السلطة. وهذه ليست الناحية الوحيدة التي ستتطلب إعادة النظر في تصوّر إدارة أوباما للملف الإيراني الداخلي والاقليمي النووي أو الثوري... وهنا أمثلة: قد لا يخطر في البال أن يكون بين الانتخابات البرلمانية اللبنانية وبين قرارات المؤسسة الإيرانية الحاكمة المعنية بالانتخابات الرئاسية في إيران علاقة. وقد ينكب المحللون على التدقيق في العلاقة الإيرانية - الإسرائيلية حول الملف النووي من دون أن يخطر في بالهم التدقيق في تلاقي الحكومتين الإيرانية والإسرائيلية على «مكافحة» مبادرة باراك أوباما المعنية بفلسطين. واقعياً، كلا المسألتين ذات أهمية. أحد المراقبين الضالعين في مراقبة العلاقة بين أركان الجمهورية الإسلامية الإيرانية وحلفائها في لبنان قال إن «الانتخابات اللبنانية قررت مصير الانتخابات في إيران»، إذ أدت خسارة «حزب الله» بآية الله خامنئي إلى اتخاذ «اجراءات فوق العادة لأنه لم يتمكن أن يهضم خسارتين ويوافق على التخلي عن السيطرة لثماني سنوات مقبلة على الحكم في طهران». وبحسب المراقب المخضرم «قرر خامنئي أنه يحتاج إلى فريق قوي في طهران للتصرف كما يرغب ولاتخاذ القرارات الضرورية ما بعد انتخابات لبنان». تلك القرارات الضرورية في اعقاب الانتخابات اللبنانية قد تكون أكثر فلسطينية، علماً بأن رجال الحكم في النظام المالي في إيران يحتاجون حاجة ماسة إلى استمرار الصراع والنزاع الفلسطيني كي يحملوا راية «القضية الفلسطينية» في «جهادهم» ضد الولاياتالمتحدة وإسرائيل ومن أجل الهيمنة الاقليمية ولتبرير امتلاك القدرات النووية المتفوقة. فإيران التي يسعى باراك أوباما إلى الغزل معها للتحدث عن الملف النووي أو عن وقف الدعم للإرهاب هي إيران نفسها التي تجند قدراتها لإلحاق الهزيمة بخطة باراك أوباما المعنية بالعملية السلمية الفلسطينية - الإسرائيلية. آية الله خامنئي والرئيس أحمدي نجاد ليسا وحدهما ولا هما وحيدان في هذا المسعى. شريكاهما كأمر واقع هما رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتانياهو ووزير خارجيته افيغدور ليبرمان اللذان يتحايلان على خطاب ورؤية أوباما لإلحاق الهزيمة بخطته السلمية نحو حل الدولتين المستقلتين. ما يخشاه البعض هو أن تتلاقى رغبات القادة في الحكومتين الإيرانية والإسرائيلية على استفزاز مواجهة عسكرية في لبنان - عبر عناصر فلسطينية وليس بالضرورة عبر «حزب الله» - كي يتملص نتانياهو من مقتضيات السلام وكي يتملص قادة إيران من الضغوط الداخلية الناتجة عن الانتفاضة والتظاهرات والتحديات ولتحويل الأنظار الدولية بعيداً عن إيران. الخوف، بحسب المراقب المطلع، هو أن يؤدي التدهور داخل إيران إلى اتخاذ قرار استدراج المواجهة مع إسرائيل عبر لبنان بهدف فرض «الحكم العرفي داخل إيران» بحجة أن إسرائيل ستضرب إيران والوضع يتطلب فرض القانون العسكري. النظام الحاكم في طهران فقد أعصابه ويتصرف بذعر أمام التطورات وهذا دليل واضح على استحالة تقبله للاصلاحات، وهو شهادة على ضعف هذا النظام في عمقه وحاله. كل هذا يجعله نظاماً هشاً معرضاً للانكسار. خطورة مثل هذا الوضع تتمثل في قرار التصعيد والمواجهة هروباً من واقع النظام المتدهور. ايجابياته تتمثل في النافذة التي يفتحها على قرار شعبي لشباب إيران يوقف مسيرة التطرف والهيمنة والفرض والاضطهاد واستخدام العنف وسيلة ضد الدول في المنطقة لتصدير الثورة. فهذا الجيل يريد أن يستعيد حقه بأن تكون حياته طبيعية وألا يكون معزولاً. لذلك نجح في ضرب النظام في صميمه. نجح في كشف انتمائه الفكري - السياسي إلى المرحلة السوفياتية. عرّى شباب إيران استحالة تظاهر شيوخ النظام بأن قيادتهم الروحية والدينية وضعتهم فوق السياسة والمحاسبة على الدهاء السياسي للاحتفاظ بزمام السلطة. شباب إيران برهن لأركان النظام أنه يتحدث لغة عصرية لم يبدأ رجال النظام حتى بفك حروفها - فأذهلوهم بأول ثورة «انترنت» ذات أنماط وسائل الإعلام الاجتماعية. مهم جداً للرئيس باراك أوباما أن يستوعب كل هذه الأمور من وجهة نظر سياسية وتاريخية واجتماعية وهو يرسم سياساته المتكاملة في استراتيجية جديدة وشاملة نحو إيران والمنطقة على ضوء التطورات الأخيرة. مهم له أن يقرأ إيران كما هي اليوم بعدما تصدّع النظام بسبب ضعفه على رغم مكابرة رئيسه أو تكبّر مرشده. ففي هذا الضعف فرصة للإدارة الأميركية لتبني علاقة متينة ومفيدة مع إيران بغض النظر ان بقي أقطاب النظام في السلطة، أو ان أتى الاصلاحيون في النظام إلى السلطة، أو ان حدث انقلاب على النظام. فالجديد طرأ على الجمهورية الإسلامية الإيرانية التي خاطبها الرئيس الأميركي معترفاً مسبقاً بقبوله بها وشرعيتها كنظام من دون أن يحصل على مقابل يُذكر. ذلك النظام هو الذي غيّر اللعبة بحشده المعارضة موحدة ضده بعدما كانت مبعثرة وذلك نتيجة اجراءاته الناتجة عن الهلع. والآن، أن اللعبة دخلت مرحلة جديدة تتطلب اصولاً مختلفة. لعل أي موقف مباشر في أحداث إيران الداخلية يُعّد غير مقبول وتدخلاً في الشؤون الداخلية. إنما التفكير في خطوات تحول دون استخدام العراق أو لبنان ساحة للتصعيد الاقليمي وذريعة لفرض اجراءات داخلية متطرفة هو من حق الولاياتالمتحدة والأسرة الدولية بأسرها. أحد هذه الاجراءات يمكن أن يتمثل في تسريع العمل على تنفيذ فكرة الزام إسرائيل ولبنان باتفاقية الهدنة لعام 1949، بموجب الفصل السابع من ميثاق الأممالمتحدة، وطبقاً لاتفاق الطائف الذي أنهى الحرب الأهلية اللبنانية. الهدف من ذلك هو قطع الطريق على ملالي طهران وعلى حكام إسرائيل. فاقفال نافذة لبنان أمام الطرفين يعني حجب الساحة اللبنانية عن مغامراتهما التدميرية - كل لغاية في نفسه. الاجراء الآخر الضروري هو التحرك الدولي لا سيما في اجتماع «اللجنة الرباعية» أواخر هذا الشهر لتبني استراتيجية الدفع الجدي بحل الدولتين - إسرائيل وفلسطين - كما تصورته «خريطة الطريق» من دون مجاملة غير ضرورية لبدعة نتانياهو التعجيزية الأخيرة المتمثلة في لاءاته لدولة فلسطينية حقيقية. فمن بالغ الضرورة لإدارة باراك أوباما أن تدرك أن ملالي طهران لن يسمحوا بحل القضية الفلسطينية لأنهم في حاجة لاستمرار النزاع كمبرر لصراع ضد أميركا وإسرائيل وكوسيلة لاستراق القيادة للقضية من العرب لبعث نفوذهم في المنطقة والعالم الإسلامي. فالمسألة ليست مسألة جاذبية أو سحر الشخصية أو القدرة على الاقناع، انها في صلب السياسة الأساسية. كذلك أن ملالي إيران - الاصلاحيين منهم بالذات - يريدون الانخراط والتوجه إلى طاولة المحادثات والمفاوضات مع باراك أوباما إنما من دون التنازل عن الجوهر - النووي منه - وذلك المتعلق بدعم أمثال «حزب الله» و «حماس» ومع الاستعداد التام للاستفادة من المغادرة الأميركية لطاولة المحادثات. كل هذه الأمور - في ضوء النزاع القائم على السلطة في إيران - لها بُعد ولون ومعنى آخر. العراق مفتوح على تدخلات ومحاولات لزعزعته لتحويل الأنظار عن الوضع الداخلي، وهو ايضاً مرشح لإحياء تسريب المقاتلين إليه عبر الحدود الإيرانية. لذلك، ولأن النظام في إيران ضعيف ومتوتر ومنقسم لدرجة تأثر الجيش الإيراني بالانقسام، قد تكون هذه فرصة للقيادة العسكرية الأميركية في العراق أن تتصرف من موقع القوة والتفوق لتسحب البساط من تحت أقدام الجمهورية الإسلامية الإيرانية. قد تكون الفرصة مؤاتية للتفاهم مع سورية ليس فقط على ضرورة التمسك بالترتيبات المعنية بالحدود السورية - العراقية، وإنما ضرورة تطبيق تفاهمات مماثلة على الحدود السورية - اللبنانية لمنع مغامرات قد ترغب بها أطراف إيرانية مستخدمة الحدود السورية - اللبنانية لغايات التوريط. مهم جداً للرئيس الأميركي ألا يتدخل، كما أسلافه، في إيران، إنما بالقدر نفسه ألا يبدو وكأنه يتمنى اخماد الانتفاضة الإيرانية، كي لا يضطر إلى معاداة النظام أو إلى تغيير تصوّره للاستراتيجية الإيرانية قبل المفاجآت.