كانوا ثلاثة ورابعهم شاحنة قديمة لجمع القمامة. في الخامسة فجراً يبدأ عملهم، يجوبون شوارع المدينة يجمعون القمامة من البراميل التي تمتد على الرصيف في كل منطقة سكنية. بخش السائق.. ومنير خان، ورام سنغ. كثيراً ما يتشاحن خان وسنغ، فكلاهما على نقيض الآخر، إلا أنهما سرعان ما يتعاونان على ربط رافعة السيارة ببرميل الزبالة ويقوم بخش بتشغيل المحرك بكل قوته. عادة يتم فرز الزبالة، فالراتب المتواضع لا يكفي لسد حاجات عائلاتهم في بلدانهم، مع تحمل مصروفهم اليومي البسيط، لذا ففرز الزبالة يمنحهم مورداً مستمراً وإن كان متواضعاً يسدون به حاجاتهم المعيشية ويحولون كل راتبهم الشهري إلى عوائلهم، وهناك تدخر الزوجة قسماً من الراتب على بساطته وتغطي مصروف العائلة بالقسم الآخر. حياة صعبة غير أنهم يشعرون بأنهم أفضل من غيرهم، على الأقل يحققون لعوائلهم الخبز وستر العورات. فرز الزبالة يمنحهم الكثير من الأشياء التي يمكن أن تباع بدراهم معدودات... قناني، أو قطع حديد، ألمنيوم، كارتونة وغير ذلك مما تحتاجه سوق السكراب المختلفة أو إعادة صناعة الورق الخشن. استيقظ بخش قبل صلاة الفجر، وقبل أن يشرب شاي الصباح الذي يؤجله كل يوم، ليشربه عند صاحب خان بائع الشاي في المنطقة التي ينظفها، وعادة لا يدفع ثمن كوب الشاي، وهذا توفير جديد لبخش، حرك شاحنته، وزمر بصوت مزعج لينبه سنغ وخان إلى ضرورة الإسراع بالخروج، إلا أن أحداً منهما لم يستجب لنداء زمور الشاحنة، كرر الصوت دون جدوى، نزل من الشاحنة وناداهما في «صندقتهما» في معسكر العمال، ثم اضطر لأن يدفع باب الصندقة، ليكتشف مرضهما، وارتفاع حرارتهما، اختلفا في سيرورة حياتهما ومعتقداتهما ودياناتهما، واتفقا في العمل والمرض والعيش في صندقة مشتركة. حينما تأكد من مرضهما، عاد بخش إلى شاحنته، واتجه بها إلى قسم البلدية المختص، إلا أنه لم يعثر على مسؤول واحد في القسم حتى يعلمه بمرض الزبالين خان وسنغ. شعر بخش بأنه فعلاً في إشكالية، فليس في مقر قسم البلدية من مسؤول يعينه وينسب إليه عاملين جديدين، واليوم هو الأحد بداية الأسبوع وعادة تمتلئ البراميل بالمخلفات وتركها إشكالية كبيرة ليس على السكان فحسب، بل عليه إذ إن المسؤول سيحمله كل ما يترتب على تأخير جمع القمامة وإن كان المسؤول هو ذاته غائباً عن عمله وواجبه حتى هذه الساعة من بداية يوم العمل. حمل نفسه وقاد شاحنته واتجه إلى منطقة عمله، وبدأ يعتمد على نفسه في ربط البراميل بالرافعة وتشغيلها، وترك التنقيب والتفتيش في الزبالة، إلا ما لاحظه تميزاً والتقطه وهو قليل، انتقل من موقع إلى آخر، وهو يتحمل مسؤولية العمل ويجهد نفسه على الرغم من أن هذا ليس اختصاصه؟ فهو سائق شاحنة ومحرك للرافعة. من المخلفات التي انتبه إليها حقيبة جلدية يبدو عليها أنها جديدة نسبياً، وفكر في الاستفادة منها بالاحتفاظ بأوراقه القليلة ورسائله فيها.. ركنها على مقعد الشاحنة واستمر في عمله من الفجر حتى العاشرة من ضحى ذلك اليوم. وقف عند صاحب خان وطلب كوب الشاي بالحليب، وشكا لصديقه الخان شعوره بالتعب الذي تحمله بغياب القردين كما كان يسميهما، وبدأ يحصي حصيلة يومه من المخلفات، وحرك شاحنته بعيداً عن عربة الشاي، وفتح الحقيبة، وحملق في محتوياتها غير مصدق، فقد امتلأت نقوداً أجنبية مختلفة ما بين دولارات وجنيهات وما إلى ذلك من نقود، أطرق طويلاً على مقود السيارة محاولاً الوصول إلى قرار، ثروة طائلة رزق بها تكفيه لأن يعيش «مهراجا» في بلاده على حد تعبيره والأمانة تدعوه لإعادة المبلغ وإبلاغ السلطات المختصة، لكن لمن ؟! لم يتوصل بخش إلى قرار كل ذلك اليوم.. وأخفى الحقيبة في الشاحنة حتى لا تكتشف، لكنه ظل بلا قرار على الرغم من مرور أكثر من أسبوع وهو صامت ويؤدي عمله بميكانيكية عجيبة حتى بعد عودة منير خان ورام سنغ إلى العمل بعد استراحة دامت أكثر من يومين. ظلت الحقيبة مع بخش، ولم يستطع أن يقرر مصيرها وكان يحتفظ بها في مكان يصعب الوصول إليه في الشاحنة، ما عاد مرحاً كما كان، وهمومه زادت، والقلق بدأ يظهر على وجهه، وتحول إلى إنسان آخر.. بينما ظلت الحقيبة كما هي. المكان الوحيد الذي كان يجده آمناً هو الفراغ البسيط في مكان ماكينة السيارة، ما بين البطارية والماكينة الضخمة للشاحنة العجوز، وكان كل صباح يتأكد من وجود حقيبة الدولارات مثلما يتأكد من نسب الزيت والماء كما اعتاد أن يفعل وهو سائق محترف يهتم بهذه الأشياء في شاحنته. استمر الحال أكثر من أسبوعين، وبخش لم يستطع أن يصل إلى قرار مناسب، كان الطقس حاراً، والشمس تجعل كل شيء على الأرض يغلي، حتى الأسفلت يشتعل ناراً تحت قدمي بخش وعجلات شاحنته. ذات صباح جلس يشرب كوبه المفضل لديه من ال «كرك» عند صاحب خان مستفيداً من ظلال البنايات، ونسي أن يطفئ محرك السيارة، وكذلك شعر بتعب وحاجة إلى الاسترخاء الذي قاده إلى النوم ليستيقظ على صراخ الناس وسيارات الدفاع المدني والشرطة وهم يطفئون النار التي أحرقت الشاحنة. أسرع بخش إلى ما تبقى من شاحنته، وكانت النار أسرع منه. خسر الحقيبة والشاحنة، وربما سيتحمل مسؤولية اشتعال النار بها فيخسر عمله أيضاً. بخش انهار ونقل إلى المستشفى، بينما ظل سر الحقيبة مدفوناً في قلبه المعرض للتلف هو الآخر.