عند محطة الباصات في احدى ضواحي لندن وقف جاك، البريطاني الأصل والجذور، يبصق على الأرض كلما مرّ عليه أحد الآسيويين والأفارقة وغيرهم من الدخلاء على مجتمعه البريطاني. فهو يرى أن هؤلاء الأجانب أخذوا منه فرصة العمل.. فأصبح عاطلاً وبلا مسكن مع عائلته، ونسى أنهم أصبحوا بريطانيين بالجنسية والولادة، كما غاب عن ذهنه أن في بريطانيا يتساوى المقيمون والمواطنون بالحقوق والواجبات. في المقابل قام أحد اللاجئين غير الشرعيين بتخييط فمه وأذنيه وعينيه، احتجاجاً على حكم المحكمة البريطانية بترحيله عن البلاد. ترى، ما هو سر تمسكه ببريطانيا؟! وما الذي يجعله يفعل بجسده، ما فعل مع أنه ليس مطلوباً في بلاده وسيرحل لذويه وأهله؟ منذ التحاقي بالعمل في لندن، استقل كل صباح أحد الباصات المتجهة من منطقة ماربل آرتش حيث أقطن الى محطة فيكتوريا حيث مكان العمل القريب منها. وأنا أشاهد يومياً تلك الأقوام من مختلف الأجناس والألوان، الذين اختاروا أن يقيموا ويؤسسوا حياتهم بأمن وأمان في هذه المدينة العريقة، إذ أصبحت مقصداً منذ عشرات السنين لرجال الأعمال واللاجئين والهاربين من الظلم والفقر والباحثين عن الأمل والحياة، وذلك للأنظمة والقوانين المعمول بها، والتي تحفظ حقوق الانسان والحيوان، بل لم تبخل بمنحهم حق اللجوء والجنسية البريطانية، واستقبال الألوف منهم واحتضانهم، حتى وفرت لهم ولأبنائهم سبل العيش الكريم من اعانة وعمل ورعاية وتعليم. ولأنها تعتبر المجرم والخارج عن القانون، إنساناً أولاً وآخراً، أصبحت في فترة من الفترات ملاذاً لتلك الفئات. وتنشط بريطانيا على المستوى الدولي، فتساعد الدول الأكثر فقراً في العالم مادياً وثقافياً وكذلك تفعل مع الدول التي تدعم عمليات الاصلاح والديموقراطية. أما على الجانب الأهلي والمنظمات غير الحكومية، فهناك منظمات وهيئات يقودها بريطانيون تدافع عن هندوراس وبيرو ومالي وفلسطين ولبنان وحتى جزر ما وراء المحيطات والبحار! ونذكر هنا مجلس التفاهم العربي البريطاني (كابو) والذي سخر طاقاته للدفاع عن قضايا العرب والمسلمين وفي مقدمها القضية الفلسطينية. وتنتشر المساجد في أرجاء بريطانيا حتى في مطاراتها، ويعود أول مسجد تم تشييده قبل قرن ونيف، وتحتضن أكثر من مليوني مسلم وملايين من مختلف الأعراق، وقد عكفت الحكومة البريطانية في السنوات الأخيرة على ارسال 20 ألفاً وأكثر من الحجاج البريطانيين الى بيت الله، وتوفير الطاقم الطبي لهم وتقديم المساعدات المادية لبناء المدارس والمراكز الاسلامية. بل هناك كنائس تم تحويلها الى مساجد تقيم فيها الصلوات الخمس. ولأن دول العالم المتقدم تقاس بمدى توافر وسائل النقل فيها، تخدم مدينة لندن شبكة مواصلات ضخمة مكونة بصورة أساسية من القطارات والباصات وتاكسي لندن. كما تنتشر في لندن كاميرات المراقبة، في الشوارع ومحطات القطارات والمحلات والباصات وفي كل مكان. ويقول البعض بأنها تقيد الحريات في بلد الحريات، إلا أنها ضرورية في مدينة يقطنها ويعمل بها الملايين من مختلف الأعراق والأجناس، ويزورها يومياً الآلاف من مختلف بقاع الأرض ويرتفع مستوى المعيشة في لندن الى ثاني أغلى مدن العالم، وكم كنت أعاني ويضيق بين الحال عندما يزورني أحد الأصدقاء أو الأهل فتزيد تكلفة المعيشة أضعافاً مضاعفة. وعند حلول فصل الصيف تتحول لندن بقدوم أثرياء العرب الى معرض كبير للسيارات الفارهة وتزدهر الأسواق والمبيعات والمحلات التجارية، وهناك محال تجارية لا يدخلها الا الأثرياء للشراء. وعلى رغم اضمحلال شارع الصحافة الشهير «فليت ستريت»، إلا أن لندن لا تزال تتربع على عرش المراكز الاعلامية العالمية. لقد علمتنا لندن الحرص على النظام والقانون واحترام الرأي الآخر وتقدير الانسان بغض النظر عن جنسه أو لونه أو دينه، بعيداً من أمراض الحقد والتملق والغبن وحب الذات المستشرية في عالمنا العربي والاسلامي. واليوم وأنا أحزم حقائبي عائداً الى أرض الوطن، بعد سنوات من الاقامة في بريطانيا، وبصفتي أحد أتباع الدين الاسلامي العظيم، تستوقفني حادثتين لا ثالث لهما: فبعد التفجيرات الارهابية التي أصابت لندن صيف 2005 والتي قام بها نفر باسم الاسلام والمسلمين، لمست ذلك التسامح الذي نادى به الاسلام، فقد تعامل الشعب البريطاني ببرود ومن دون انفعال كبير ضد أية جنسيات بعينها أو دين عدا بعض الحالات الفردية التي لا تكاد تذكر ونفس السلوك تعاملت به وسائل الاعلام والصحف حتى اليمينية منها حيث التزمت الموضوعية من دون الخوض في فخ التحريض وتأجيج مشاعر الكراهية ضد أي جنس أو دين (ونعني هنا العرب والمسلمين). وساهم هذا السلوك الحضاري الراقي في تبديد جزء من القلق الذي انتاب الجالية العربية والاسلامية من احتمال وقوع أعمال عنصرية انتقامية، كما زار عدد من كبار المسؤولين في مجال الأمن المناطق والمساجد الاسلامية لتطمين المسلمين واتخاذ الاجراءات اللازمة ضد أي حوادث انتقامية هنا أو هناك. وعند نشر الصور المسيئة للرسول (صلى الله عليه وسلم) في معظم الصحف الأوروبية، امتنعت الصحف البريطانية جميعها عن نشر أية صورة احتراماً ومراعاة لمشاعر المسلمين. فوداعاً لندن... ووداعاً للشارع الذي سكنت جادته أكسفورد ستريت، ووداعاً للأصدقاء الحميمين جو وتشارلي وايميلي ومسز ويب، والى لقاء لا يعلمه إلا الله... حسين جاسم البحرين - بريد الكتروني