يرى الكاتب والباحث الاجتماعي الدكتور نعيمان عثمان ان القحط في العلوم الاجتماعية يجبر حتى الكتاب المعروفين على تكرار أقوالهم على مدى عقود، وهو ما يمكن وصفه باختلاس من الذات، مبدياً أسفه على أن عدد من تحصّلوا على أفضل مستويات التعليم يسهمون في تثبيت القوالب النمطية، ويضفون عليها مسوغات «علمية». وقال في حوار مع «الحياة» إنه ينتقد بشدة إطلاق الأحكام الواثقة عند عدد من الكتاب. إلى نص الحوار: في كتابك الجديد «القبلية: عجز الأكاديمي ومراوغة المثقف» تخوض في موضوع شائك أيضاً، ويمس المجتمع السعودي، أكثر مما ينطبق على أي مجتمع آخر، كيف ترى تأثير مثل هذا المواضيع في انفتاح المبحث الاجتماعي والفكري والثقافي على آفاق جديدة؟- حاولت في «كلمة أولى» في بداية الكتاب الإجابة على هذا السؤال، فأحد أهم أهداف الكتاب تقديم عرض نقدي للحالة الراهنة الراكدة والمناورة في الدراسات الاجتماعية، ما يفسح المجال للتناول المبسط وربما التسطيحي لقضايا جوهرية. لذا آمل أن يفسح تناولي المجال للنقاش والبحث والتداول على أوسع نطاق لهذه القضايا المركزية. موضوع الكتاب شيق جداً للقراءة، ويلامس الوضع الاجتماعي الحالي، ولكنه يصيب من يقرأ بالتعب بخاصة حين يكون غير متخصص، ما تعليقك؟- آمل أن تكون «الملامسة» ليست مجهدة للقارئ على رغم تشعب حلقات الموضوع وضرورة محاولة اعطائه الاهتمام اللازم. الكتاب مليء بالمعلومات والاستشهادات، كأنما هناك حرص شديد على ذكر كل المعلومات التي توصلت لها خلال بحثك وعلى مدى سنوات طويلة، ألا ترى أن ذلك قد يزحم الكتاب بأمور كثيرة، حتى إن كانت مهمة؟- اتباعاً لإجابتي السابقة، طبيعة الموضوع وتشعباته وتعقيداته والمواقف المختلفة حوله فرضت مزيداً من التفصيل والتقصي، خصوصاً أن بعض قضاياه ترتبط بمسائل المواطنة والحقوق – حتى قبل حقوق الإنسان- والانتماء. أشرت إلى عدد من محاولات السطو على أبحاثك، حين تجرأ بعضهم بنشر إنتاجه دون الإشارة إليك، هل تكتفي بذلك أم أنك بصدد إجراء آخر؟- سعيد بأن هذا السؤال يعطيني الفرصة لأصحح ما ورد سابقاً في عدد سابق من صحيفة «الحياة» بهذا الشأن، فلم أشر إلى أي سطو أو حتى اقتباس من كتاباتي. وبالمناسبة، هذا أول كتاب لي في مجال العلوم الاجتماعية، فتجربتي الكتابية السابقة كانت في الأدب والترجمة والتعليم والاعلام. في بداية الفصل الأول أشير إلى دعوى كتّاب بالسطو على كتاباتهم وأعلق على ذلك بأن القحط في العلوم الاجتماعية يجبر حتى هؤلاء الكتاب المعروفين على تكرار أقوالهم على مدى عقود، وهو ما يمكن وصفه باختلاس من الذات. في رأيك إلى ماذا يعود تردي البحث الاجتماعي في الوطن العربي؟ وما رأيك في الجهود التي قدمها باحث اجتماعي مثل خلدون النقيب بخاصة حول القبيلة في دول الخليج؟- يمكن عزو الأسباب إلى سياسات الدول وحساسيات المجتمعات والتكوين المعرفي والمؤسسات التعليمية، لكنني في هذا الكتاب أحمل الأكاديميين والمثقفين جزءاً كبيراً من المسؤولية. هل نجح المثقفون العرب، بمن فيهم الباحثون والمفكرون والعلماء، في تغيير أو زحزحة الصورة النمطية للمجتمع العربي والخليجي بخاصة؟- للأسف ما يتبين من بحثي أن عدد من تحصلوا على أفضل مستويات التعليم يسهمون في تثبيت القوالب النمطية ويضفون عليها مسوغات «علمية". لماذا في رأيك تنصلّت دارة الملك عبد العزيز من المسؤولية التي ألقتها عليها وزارة الثقافة والإعلام، أي الرقابة على الكتب التاريخية؟- يأتي اقتباس عابر من الصحافة المحلية عن هذا الموضوع لكنه يشير اشارة بينة إلى الوضع المزري للبحوث في مجال العلوم الاجتماعية، فلا يجد المسؤولون حرجاً حتى في كشف هذا العور. ألا ترى أن الرقابة على الكتب التاريخية سينتج منها تاريخاً مشوهاً أو غير موثق؟ - في الكتاب أقتبس من كاتب غربي قوله بعدم أهمية المؤرخين في الدول القبلية/الإثنية، إذ يتجنب معظم المثقفين كتابة التاريخ ويقوم الأجانب بهذه المهمة. لكن في وضعنا لا يسلم الأجنبي من التأثر باغراءات موارد النفط والنفوذ السياسي والديني. كذلك أناقش أقوالاً عن دور الدول في مقررات التاريخ بل فرض وصايتها التامة على الكتابات التاريخية. لكن لبعض الأكاديميين والمؤسسات التعليمية تجن أكبر، وكمثال على ذلك أمامي كتاب صادر من مركز دراسات الوحدة العربية عن ثورة ظفار لباحثة عمانية مبني على رسالة ماجستير في معهد البحوث والدراسات العربية، يفصح في تقديمه المشرف على الرسالة حامد عمار عن تردده في القيام بهذه المهمة، خصوصاً أن زملاء له تهربوا منها، وذلك «نظراً لحساسية الموضوع السياسية. غير ان الباحثة أكدت أن السياسة الرشيدة للسلطان قابوس لا تحجر على أي فكر أو قلم طالما كانت توجهاته لخدمة القضايا الوطنية"! ألا ترى من جانب آخر أن الاهتمام بالقبيلة والأنساب والتفاخر بها يظهر أزمة ثقة بالسلطة فيستنجد بالقبيلة لتخطي الشعور بعدم الأمان؟- هذا أحد الأسئلة الأساسية التي أسعى في الكتاب إلى الإجابة عليها. يلاحظ في كتابك هذا والذي قبله عن الصحافيين، أنك تتهرب من إصدار أحكام، أو حتى تقول رأيك صراحة، تاركاً الآخرين ممن تستشهد بهم يبوحون عنك بالنيابة؟- تماماً، فهذا بالضبط ما أنتقده بشدة عند عدد من الكتاب: إطلاق الأحكام الواثقة وإصدار التعميمات المبالغة. فالغرض هو التوصل عن طريق التقصي والتأطير إلى منظور لا يخفى على القارئ المتتبع. كيف ترى السجال الدائر حالياً حول الليبرالية، كيف تفهمه وتتعاطى معه؟- ربما تكون هنا بعض الفائدة في العودة لمادة «liberal» في كتاب ريموند وليمز «الكلمات المفاتيح» الذي كنت قد قمت بترجمته، لكن الأهم هو رأي وليمز بأن المفاهيم تتشكل بالنقاش وأن بحسب ما ورد على غلاف الكتاب لناقد أميركي، المثقف يقف على الخطوط الأمامية في المناوشات، فهو يسترجع أو يعارض أو يتبنى معاني الكلمات التي تحدد رؤيتنا للعالم. لا تحتدم هذه النقاشات في أبراج عاجية، وكأنها جدل بين الأكاديميين حول المعاني، وإنما يتم خوض تلك المعارك بين عامة الجمهور من أجل السعي إلى تحقيق إدراك أشمل. تتداخل الليبرالية liberalism مع كلمات أخرى في الإنكليزية: freedom حرية التي لا جدل حولها وliberty المرتبطة بالحرية الفكرية والتحرر السياسي (وأهميتها بالغة هنا لأنها تدل على استقلال الفرد عن الانصياع للآخرين واختيار الفرد تكوين الروابط مع سواه)؛ وlibertinism الدالة على الفسوق والفجور. هناك اشتقاقات أخرى للكلمة، والتجاذبات والمناوشات الدائرة تحوم حول هذه المعاني المتباينة، لكن الملحوظ أن هذه المناوشات حرفت السعي للمطالبة بالحقوق والحريات الأساسية على أرض الواقع. هل تشعر بأنك وفقت في أسلوب عرضك للمعلومات في الكتاب خصوصاً لمن يقرأه من العامة من الناس؟- آمل كل الأمل في أن يتحقق شيء من ذلك. ما الجديد لديك للمرحلة المقبلة؟- ربما العودة لحظيرة الأدب.