يشكّل العنوان مدخلاً مناسبًا لقراءة رواية «الحفّار والمدينة» للكاتب اللبناني أنطون أبو زيد (منشورات ضفاف ومنشورات الاختلاف)، فالمجاورةُ بين «الحفّار» التي تنتمي إلى الحقل المعجمي للإنسان و «المدينة» التي تنتمي إلى الحقل المعجمي للمكان تناسب المتن الروائي الذي يرصد التفاعل، بوجهيه السلبي والإيجابي، بين الشخصيات والأماكن الروائية، والتحوّلات الناجمة عن هذا التفاعل، وهي تحوّلات نراها غالبًا من منظور نعمان، الشخصية المحورية في الرواية، التي يعهد إليها الروائي بروي نحو ثلث الوحدات السردية فيها، فتروي إحدى وثلاثين وحدة من أصل ستٍّ وأربعين، هي مجموع الوحدات التي تتألّف منها، ويلي نعمان في العدد زوجته رنا التي تروي ثماني وحدات، والراوي العليم الذي يروي أربع وحدات، فيما يبقى وحدة سردية واحدة لكلٍّ من ياسمين وسميرة ولبيبة. وهكذا، تغلب تقنية الراوي المشارك على تقنية الراوي العليم في الرواية، ويكون المنظور الروائي متعدّدًا وليس أحاديًّا. يرصد أبو زيد في روايته التحوّلات التي طاولت الإنسان والمكان، في مرحلة إعادة الإعمار التي انطلقت في بيروت، في التسعينات من القرن الماضي، وما واكبها من تصفية لذيول الحرب الأهلية اللبنانية. ويتناول، على وجه التحديد، تجارة الآثار المكتشفة خلال حفريات إعادة الأعمار والممارسات التي واكبتها وتشكّل امتدادًا لزمن الحرب وأدبيّاتها. وهو يفعل ذلك من خلال حركة نعمان وأسرته في المكان الروائي العام وعلاقاته مع الشخصيات الأخرى لا سيّما عبدالله المشرف على الحفر من قبل شركة «التنّين» المنخرطة في العملية. يأتي نعمان، مدرّس التاريخ، مع أسرته الصغيرة إلى المدينة، مطرودًا من منزل في الضواحي، فيستأجر شقّة صغيرة في شارع باستور، تشكّل نقطة انطلاق لاكتشاف المكان سيرًا على الأقدام، فيصف الشوارع والأحياء والمحلات والمعالم المعروفة، ويكسر نمطية السرد بوقفات وصفية معيّنة، ونقطة انطلاق لاكتشاف الناس المقيمين فيه، فيرصد حركة الجيران والعلاقات في ما بينهم، في مساحات سردية وحوارية، تتصادى مع المساحات الوصفية لتصنع حركيّة النص. مكان هرم على أن المفارق أنّ الأسر المقيمة في المكان هي ممّن تقدّم بها العمر، وشارفت الرحيل عن المكان أو الدنيا، في مواءمة بين مكان هرم خارج من الحرب وشخصيات هرمة ستخرج قريبًا من الحياة؛ فياسمين تلازم زوجها الثمانيني المريض، النحيل ذي الذراعين النحيلتين العاجزتين عن الحركة، وتحرص على إسعاده في ما تبقّى له من عمر، وتنتظر الموت الذي يأتي بالفعل ليأخذه، ويتركها لزيارة لاحقة. وميلاني الجارة الأرمينية العجوز تتكبّد العناية بزوجها المريض والمقعد، بمساعدة هوفيك ابن أخيها، حتى إذا ما سافر الأخير تقرّر الانتقال مع زوجها إلى برج حمود. والحلاق موريس يموت بسكتة قلبية بعد أن باع بيته مكرهًا لشركة محاسبة كبيرة. ومارتينوس المقيم في البناية المجاورة، المقامر الذي يتغيب عن بيته، ويهمل أسرته وينخرط في أعمال غير مشروعة، يتم القبض عليه ويُقتل برصاص نادل مزيّف في مقهى صغير، في مدينة ساحلية، خلال محاولة الضابط إقناعه بالتعاون لكشف مهرّبي الآثار. وعساف، صديق نعمان القديم، الذي كان يعمل في جمعية لمكافحة العنف ينفصل عنها بعد انحرافها عن مبادئها، يُصاب بسرطان الكبد. ورنا، زوجة نعمان، التي تلازمه في حلّه وترحاله، وتتحمّل معه مشاقّ الحياة، توطّن النفس على الابتعاد عنه والعودة مع ابنها إلى مدينة أهلها، حين تلمس ما طرأ عليه من تحوّلات سلبية، غير أن خطفها مع ابنها من قبل عبدالله، وقيام نعمان بالمساهمة في الإيقاع بعبدالله وإنقاذهما من الخطف، يدفعانها إلى إعادة النظر في قرارها. وماجد، الطالب في معهد التمرض، يُخطف في بداية الثمانينات، ويتم العثور عليه في مستشفى الأمراض العقلية مصابًا بانفصام الشخصية. وأبوه مهيب الخالدي، خبير الآثار، يعرض ما لديه من خرائط وخبرة مقابل معلومات عن ابنه. وهكذا، يترك المكان الذي كان مسرحًا للحرب تداعياته على شخصيات الرواية الهامشية أو المحورية، فتعرف تحوّلات خارجية أو داخلية، وتؤول إلى نهايات قاتمة، تتراوح بين المرض والانفصام والموت والهجرة والاعتقال. الشخصية المحورية الثانية في الرواية إلى نعمان هي عبدالله الحفّار، وهي، خلافًا لنعمان، تحضر في شكل غير مباشر، من خلال الراوي المشارك نعمان والراوي العليم، ولا يمنحها الكاتب حقّ الروي، ولعلّه يفعل ذلك عقابًا لها على سلبيّتها، فعبدالله المكلّف بالإشراف على الحفر في منطقة المرفأ، من قبل شركة «التنّين»، عضو في شبكة لتهريب الآثار، يقوم بإخفاء التماثيل الأثرية التي يعثر عليها خلال الحفر تمهيدًا لتهريبها إلى خارج البلاد، وهو، في سبيل تحقيق أهدافه في الثروة، لا يتورّع عن ارتكاب شتّى الموبقات، من: قتل، وخطف، وابتزاز، ورشوة، ودعارة، واختراع جمعيات خيرية وهمية تُباع باسمها الآثار بالمزاد العلني...، ويتّخذ له مساعدين. وعليه، ينجح بواسطة زوجته في الإيقاع بنعمان وتوريطه في أعماله غير المشروعة مستغلاًّ حاجته إلى المال، فيجد الأخير نفسه منخرطًا في تهرب الآثار، مجاريًا إيّاه في سلبيّته، غير أنّ نعمان ما يلبث أن يستفيق من سلبيّته، حين يتمكّن، أوّلاً، من الحصول على معلومات عن ماجد ويعيده إلى والده، وحين يتعاون، ثانيًا، مع القوى الأمنية للإيقاع بعبدالله، فيتم القبض عليه بالجرم المشهود، ويُحال على المحاكمة. من خلال هذه الشخصيات والوقائع، يطرح أبو زيد مجموعة موضوعات نشأت عن الحرب أو في ظلّها، بصرف النظر عن الحيّز المخصّص لكلِّ موضوعة في الرواية. فيقول: تجارة الآثار وتهريبها، مصير المخطوفين والمفقودين، استيلاء بعض الشركات على أملاك الناس، تخلّي بعض الأحزاب عن منطلقاتها، استشراء الفساد، إلى ما هنالك من سلبيات تمخّضت عنها الحرب. وهنا، لا بدّ من الإشارة إلى أن الكاتب يمارس نوعًا من التقيّة الروائيّة، فلا يسمّي الأشياء بأسمائها، ولعلّه يفعل ذلك تجنّبًا للمتاعب أو ثقةً منه بقدرة القارىء على إحالة الأسماء على مراجعها الواقعية، فهو لا يحتاج إلى كبير عناء ليعرف المقصود بشركة «التنين»، وشركة المحاسبة الكبرى، والجمعية التي انحرفت عن أهدافها. وفي رأيي لو انّه سمّى لأضفى على روايته قدرًا أكبر من الإيهام بالواقعيّة. غير أن انتهاء الرواية بالقبض على الحفّار، مهرّب الآثار، وتحرير أسرة نعمان المخطوفة، يشكّل رسالة إيجابية تقدّمها الرواية للمستقبل، تتمثّل في حتمية قيام دولة القانون ومحاسبة الخارجين على أحكامه، وانتصار «المدينة» كمفهوم حياة ونمط عيش على «الحفّار» الذي يغلّب طمعه وأنانيّته على المصلحة العامة. أفقية متصاعدة في الخطاب، يضع أبو زيد روايته في خمسة فصول وستٍّ وأربعين وحدة سردية، ويتناقص عدد الوحدات من فصل إلى آخر، بدءًا من الأول، مرورًا بالثاني والثالث والرابع، وصولاً إلى الخامس. وتتّخذ الأحداث في الفصول الأولى مسارًا أفقيًّا، تراكميًّا، تجميعيًّا. ولا تبدأ بالنمو والتصاعد والحبك إلا في الفصول الأخيرة حين ينخرط نعمان مع عبدالله في أعماله غير المشروعة. وتتعدّد الخيوط السردية في الرواية، وتتفاوت في الطول بين خيط وآخر، فبينما يقتصر بعض الخيوط على وحدة سردية واحدة ضمن الفصل يمتدّ بعضها الآخر على إحدى وثلاثين وحدة وفصول عدة. وهنا، نشير إلى أن بعض الخيوط القصيرة لم يضف شيئًا ذا بال إلى النص، ويمكن الاستغناء عنه من دون أي انتقاص منه. تتعدد أنماط الكلام في الوحدات السردية المختلفة، فيطغى النمط السردي على ما عداه في نحو ثلث الوحدات، ويلتقي النمطان السردي والحواري في الثلثين الآخرين، ويطلّ النمط الوصفي برأسه لا سيّما في النوع الأوّل. ويتخلّل التعدّد النمطي تعدّدٌ في مستويات اللغة، فيستخدم الكاتب المستوى الفصيح المباشر في السرد والوصف، والمستوى المحكي في الحوار. يوهم المستوى الأول بواقعية الرواية من خلال تسمية الأماكن الروائية بأسمائها الحقيقية وتحديد زمن الأحداث التاريخي، ويوهم المستوى الثاني بها من خلال استخدام لغة الناس المحكية. وثمّة نوع آخر من التعدد يتعلق بطبيعة المادة المسرودة، فنجد الكاتب يتنقّل بين الوقائع والذكريات في الصفحة الواحدة والفقرة الواحدة، في بعض الوحدات السردية. هذه التعدّدية في الأنماط واللغة والمادة المسرودة تصنع حركيّة النص، وتجنّبه السقوط في الرتابة السردية. «الحفّار والمدينة» تصفّي بعض نتائج الحرب الأهلية اللبنانية وانعكاساتها على الإنسان والمكان، وتبشّر بحتميّة انتصار المدينة والقانون على جميع حفّاري القبور، ولو بعد حين.