تعتبر الهند أكبر ديموقراطية في العالم، كونها تجسد نموذجاً للتطبيق العملي لمبادئ الديموقراطية الليبرالية وسط أضخم تجمع بشري تعددي، سبق أن وصفه ونستون تشرشل بأنه منطقة في خط الاستواء تضم خليطاً غير اعتيادي من الجماعات العرقية وكمّاً هائلاً من اللغات غير المفهومة وتنوعاً في الطبيعة والمناخ والأديان والممارسات الحضارية إلى جانب الفوارق الهائلة بين الرفاهية العالية المتأتية من التقنية الحديثة والفقر المدقع الساحق في الريف. ويعمد النظام الهندي الى كبح جماح التناقضات الاجتماعية والسياسية وترويض ذلك التنوع الإثني والثقافي المخيف، إلا أن رداء التجربة الديموقراطية لا يخلو من الثقوب. فقد أفضى السمت الانتقائي الذي تتسم به التجربة التنموية الهندية إلى عزل مناطق كثيرة وتهميش فئات اجتماعية وجماعات إثنية إلى حد حرمانها من جني ثمار تلك التنمية، ما أبقاها غارقة في مستنقع مزمن من المآسي الإنسانية. وعلى رغم أن الاقتصاد الهندي ثالث أكبر اقتصاد ناهض عالمياً بمعدل نمو سنوي يبلغ 8 في المئة، لا تزال الهند أكبر مركز للفقراء على مستوى العالم، إذ تبلغ معدلات الفقر فيها نحو 30 في المئة من إجمالي عدد السكان، البالغ 1.25 بليون نسمة يعيش ثلثهم بأقل من دولار واحد للفرد يومياً، ولم يتجاوز متوسط الدخل السنوي للفرد 720 دولاراً، وذلك بسبب انخفاض مستوى وانتاجية العامل الهندي نتيجة خلو خطط التنمية من استراتيجية للتنبؤ بحاجات سوق العمل، فضلاً عن جمود هيكل العمالة في قطاعات الاقتصاد، فعلى رغم تراجع نسبة مساهمة الزراعة في الناتج المحلي الإجمالي من 50 في المئة أوائل الخمسينات إلى 28 في المئة أواخر التسعينات، لا يزال يعمل بها نحو ثلثي عدد السكان، في حين لم يطرأ سوى تغير طفيف على هيكل العمالة في قطاعي الخدمات والصناعة، حيث لا يستوعب قطاع الخدمات سوى 20.5 في المئة من قوة العمل فيما يسهم بنحو 47 في المئة من إجمالي الناتج المحلي. ولا تزال معدلات الأمية تقترب من 48 في المئة من إجمالي عدد السكان، كما يقدر البنك الدولي كلفة سوء التغذية في الهند بنحو 10 بليون دولار سنوياً في صورة ضعف في الإنتاجية وانتشار للأمراض والأوبئة، كالإيدز الذي تفشى حديثاً ووصل عدد الحالات المصابة إلى أكثر من سبعة ملايين، ما يجعل الهند في المركز الثاني بعد جنوب أفريقيا من حيث الإصابة بهذا المرض وتزايد في معدل الوفيات وانخفاض في متوسط العمر المتوقع. وللوضع الاقتصادي المتردي عواقب وخيمة على الحياة في الهند، في صدارتها انتشار تجارة الرقيق الأبيض، حتى أدرجت الولاياتالمتحدة الهند ضمن قائمة الدول التي أخفقت في مكافحة مثل هذا النوع من التجارة. وفي موازاة ذلك، ضرب الفساد، بمختلف أشكاله، في جنبات المجتمع وداخل النظام البيروقراطي، حتى أضحت الهند واحدة من أكثر دول العالم فساداً، بدءاً من طلب موظفي الحكومة رشاوى مقابل أداء خدمات أو القيام بإجراءات تخص المواطن، مروراً بدفع ذلك الأخير رشاوى لقضاء مصالحه، حتى قُدِّر إجمالي المبالغ المدفوعة لتلك الأغراض سنوياً في المتوسط ب 210.68 بليون روبية في قطاعات الخدمة العامة الهندية، وانتهاء بتورط رؤساء حكومات ووزراء وبرلمانيين في صور مختلفة من الفساد، حيث جرم أكثر من 100 عضو من مجموع 552 عضواً في البرلمان بالضلوع في قضايا فساد ما زالت معلقة. وأرجع الدارسون تفشي تلك الظاهرة على هذا النحو إلى عوامل أساسية تتمثل في: الافتقار إلى الشفافية، وإلى الآليات الفاعلة في الإبلاغ عن الفساد، ثم إلى أمانة المسؤولين في الحكومة، فضلاً عن ظاهرة قبول الرشوة كأسلوب حياة يومي وعادة وثقافة، بالإضافة إلى عدم فعالية النظام القضائي، وتقصير السياسات الاقتصادية، ونقص تدريب وتوجيه المسؤولين الحكوميين، إلى جانب عدم كفاية الرواتب. وكان لمثل هذا الخلل الذي أطبق على التجربة التنموية الهندية تداعياته السلبية والخطيرة على العملية الديموقراطية، حيث أسفر عن تآكل ثقة الفئات المهمشة اقتصادياً والمغبونة سياسياً في جدوى تلك العملية وصدقيتها إلى حد شجّع أبناءها على مقاطعتها بل والعمل على تقويضها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، وهو ما جعلها أقرب إلى ديموقراطية نخبة اقتصادية وثقافية وسياسية يتخذ منها الأثرياء والمنتفعون مطية لبلوغ مطامعهم في الثروة وتحقيق مآربهم في النفوذ، بينما عجزت تلك الديموقراطية الهندية عن أن تتسع وتبسط يدها لكل أطياف المجتمع الهندي، الذي يعيش قطاع كبير منه مغيباً يصارع الجهل والفقر ويغط في الأساطير، كما عجزت عن احتواء الشرائح الاجتماعية المطحونة والتجمعات الإثنية المهمشة كالمسلمين والماويين، على سبيل المثال لا الحصر. ويشكل المسلمون في الهند أضخم أقلية دينية، بتعداد يدنو من 150 مليون نسمة ويمثل 14 في المئة من سكان البلاد، وهم ينقسمون ما بين سنة وشيعة، وينتشرون في أنحاء الهند، لا سيما مدن الشمال حيث يمثلون ما يقرب من ثلثي سكانها، بالإضافة إلى جامو وكشمير وجزيرة لاكشاد دويب حيث يمثلون نحو ثلثي سكانها، في حين يعيش ما يقرب من ربع مسلمي الهند في ولاية أوتار براديش. وعلى رغم أن ثلاثة رؤساء للهند منذ العام 1947 كانوا من المسلمين، إلا أن ذلك لم يعكس وضعاً سياسياً أفضل، كون رئيس الدولة في الهند لا يتمتع بسلطات أو صلاحيات في نظام سياسي برلماني يعطي جل الصلاحيات لرئيس الحكومة. كما أن القيادات المسلمة مهمشة في الأحزاب الكبرى فيما تظل الأحزاب المسلمة منبوذة ولا تقبل الأحزاب الكبرى التحالف معها، ويتفنن المرشحون في ابتداع الدعاية والبرامج الانتخابية لكسب أصوات المسلمين عبر وعود زائفة بتحسين أوضاعهم لكنها سرعان ما تذهب أدراج الرياح بمجرد أن تنتهي المعركة الانتخابية. وما برح المسلمون في الهند يعانون من وضعهم في دائرة الاشتباه إثر أي عمل إرهابي تشهده البلاد جراء الصراع الهندي - الباكستاني حول إقليم كشمير. وثمة شبه إجماع بين المسلمين في الهند على أن عملية قرية باتلا هاوس، التي قتلت خلالها الحكومة شابين مسلمين بذريعة تورطهما في أحداث إرهابية، مثّلت منعطفاً في رؤية المسلمين لأوضاعهم ولعلاقتهم بحزب المؤتمر، إذ بدأوا يعيدون النظر في تصورهم التقليدي بأن هذا الحزب هو حامي حقوقهم، خصوصاً بعد أن أقدمت حكومته على قتل الشابين على رغم عدم وجود أدلة قاطعة تثبت تورطهما في ما نسب إليهما من اتهامات. وإلى جانب التهميش السياسي، يعيش مسلمو الهند في ظروف صعبة من الأمية والفقر، ما يعني أن نصيبهم ضئيل من التنمية، كما أن غالبيتهم مستبعدة من المناصب المهمة والأجهزة الحكومية. وكان تقرير رسمي كشف في عام 2006 أن المسلمين الهنود هم الأكثر «تأخراً» من بين مكونات المجتمع الهندي في المجالات التعليمية والاقتصادية، كما أن نسبتهم في الدوائر العليا للدولة لا تتجاوز 3 في المئة. وعلى رغم أن لجنة «ساتشار» التي شكلها رئيس الوزراء مانموهان سينغ قبل عامين للنهوض بأوضاع المسلمين، أكدت أن المسلمين هم أكثر الفئات تدهوراً في الأوضاع المعيشية وطالبت باتخاذ الإجراءات اللازمة لإنهاء هذا الضيم، إلا أن أياً من توصياتها لم يؤخذ في الحسبان أو ينفذ على أرض الواقع. ودفع هذا الإحساس بالغبن مجلس علماء الهند إلى تقديم لوائح انتخابية في بعض الدوائر، خلال الانتخابات الأخيرة، مدشناً بذلك أول مشاركة للمسلمين بشعاراتهم وألوانهم الخاصة. وفي الجزء الخاضع للسيطرة الهندية من إقليم كشمير، دعا الزعماء الإسلاميون في الإقليم إلى مقاطعة الانتخابات باعتبار المشاركة فيها سواء ترشيحاً أو تصويتاً تعني الاعتراف بالسيطرة الهندية على الإقليم ذي الغالبية المسلمة. وترافقت هذه الدعوة مع تحذير أطلقه حزب المجاهدين -أقوى الفصائل الإسلامية في كشمير- على لسان قائده الأعلى المقيم في باكستان سيد صلاح الدين باعتبار أي مشارك في الانتخابات تصويتاً أو ترشيحاً «خائناً باع دم الشهداء». ويبدو الأمر أشد وطأة بالنظر إلى حال الأقلية الماوية، التي تعاني التهميش الاقتصادي وضيق حظهم من عملية التنمية الهندية إلى الحد الذي دفع بشبابهم إلى الانضمام إلى صفوف المتمردين، كما حضهم على العزوف عن الانخراط في العملية السياسية، حتى أن ناشطين منهم دعوا إلى مقاطعة الانتخابات في الولايات الشمالية والشرقية من الهند وقطعوا الطرق في البلدات والقرى النائية لمنع المسؤولين عن الانتخابات من الوصول إلى مراكز الاقتراع، وهددوا بقطع يد من يصوت في الانتخابات الحالية، التي قام متمردون ماويون خلال المرحلة الأولى منها بقتل 19 شخصاً في جاركند وولايتين أخريين في شرق البلاد. ويخوض المتمردون الماويون منذ عقود مواجهة مسلحة مع الحكومة سعياً لتحقيق العدالة الاجتماعية وإنهاء حكم الإقطاع وتمكين الفلاحين الفقراء من حقوقهم العادلة، بحسب تعبيرهم. وتعد الحركة الماوية في الهند مصدر خطر جدي في ولايات تمتد من حدود نيبال عبر الولايات الخلفية في شمال وسط الهند، من بيهار إلى جهاركاند، وجهاتسغار وأجزاء من أوريسا وأندهرا وبراديش ومهاراشترا المعروفة ب «الشريط الأحمر». والى مدى أقل فإن المتمردين يشكّلون أيضاً وجوداً فاعلاً في ولايات أخرى مثل ويست لبنغال وأوتار براديش وتاميل نادو. ويعمل غالبية المقاتلين الماويين في منطقة كثيفة الغابات وخارجة عن القانون، مع بعض التقديرات التي تقول إنهم يسيطرون على ما يقرب من 10.03 مليون هكتار من الغابات في عموم البلاد. ولدى المتمردين الماويين قاعدة مؤيدين وسط الطبقات الضعيفة والمقهورة، كما أنهم يجدون مجندين جاهزين وسط الطبقات المنبوذة في المناطق الريفية وأيضاً في المناطق القبلية، حيث يستولي المتنفذون سياسياً على الأراضي. ويعتقد أفراد طبقة المنبوذين وسكان المناطق القبلية انهم لا يحظون بالمساواة بحسب القانون والدستور. وفيما أعلنت الحكومة الهندية أنها لن تعقد محادثات سلام مع المتمردين الماويين إلا إذا تخلوا عن العنف والسلاح، يواصل هؤلاء صراعهم منذ أواخر ستينات القرن الماضي. ووفقاً لأرقام وزارة الداخلية الهندية خلال الفترة من كانون الثاني (يناير) الى حزيران (يونيو) 2007 وصل عدد حوادث العنف التي تسبب فيها المتمردون الماويون إلى 842 حادثة، مقارنة ب827 خلال الفترة نفسها من العام الماضي، أسفرت عن مقتل 358 شخصاً. ووصف رئيس الوزراء الهندي مانموهان سينغ في خطابه في يوم الاستقلال المتمردين الماويين باعتبارهم التهديد الأمني الداخلي الأكبر الذي تواجهه الهند منذ الاستقلال. * كاتب مصري