كان منظر صدام حسين وهو يقف أمام عدسات العالم بلحيته الكثة وثيابه الرثة يفتح فمه في كشف صحي، ثم صورة الجحر الذي اختبأ فيه طوال شهور المطاردة، كان هذا المشهد صادماً لمعظم العرب، حتى للذين لم يحبوا الرجل ولم يتعاطفوا معه يوماً. هذا المشهد جعل الجميع يتفق على سؤال واحد: لماذا لم يرحل؟!. شيخ دين عراقي زعق في برنامجه الفضائي، رغم كرهه لصدام وهروبه من أيام حكمه قائلاً: «لماذا لم ينتحر هذا الجبان قبل أن يسقط ذليلاً بأيدي الأميركان؟!»، فهل كفر الشيخ؟! لماذا لا يرحلون؟!هذا السؤال يتكرر اليوم في مشهد الثورات العربية، رؤساء احتكروا ثروات شعوبهم على مدى ثلاثة وأربعة عقود، فأتخمت حساباتهم البنكية بما يفوق ثروات بلدان كاملة، بنوا جنانهم في كل بقعة من العالم، ثم جاء اليوم وفرطت من يدهم عصا السلطة الغليظة، شاهدوا الشعب التونسي أعزل، يتجه لقصر الرئيس، رافعاً جملة واحدة لا مساومة عليها: ارحل، فظنوا أنها مجرد صدفة. امتلأ الشارع بالشعب، وسالت دماء على الأرض، الأول قال عنهم: «شوية عيال»، الآخر قال: «جرذان»، الثالث قال: «عصابات»، الرابع قال: «أصحاب أجندة غربية»، صور الجثث الممثل بها والمعذبة تقشعر لها الأبدان والأرواح، والعالم كله صار شاهداً على ما يحدث، وغاضباً أيضاً وكافراً بكل ما يبرر هذه الوحشية، لكنهم لم يرحلوا. انقسمت البلاد إلى شطرين، وتحارب المواطنون، ولم يرحلوا. تدخلت الوساطات وأعطيت الضمانات، ولم يرحلوا. قيل لهم كما قيل لصدام «سنؤمن لك الخروج، وعدم المحاكمة وستنعم بكل ما في حساباتك الخارجية من بلايين، وستخرج بعائلتك»، لكنه لم يرحل؟!.. لِمَ؟!.. لِمَ لم يرحلوا رغم فداحة الثمن الذي رأيناه نحن على الشاشات، ولِمَ عاندوا قانون العقل والحكمة والمنطق؟ لِمَ لم يفهموا ما فهمناه ولِم لَم يصدقوا. إنه وهم الخلود، كما وصفه أحد فلاسفة العصر الحديث، وهم الخلود هو الذي جعل كل هؤلاء الرؤساء يظنون أن ما يحدث خارج قصورهم مجرد جلبة في الخارج استعدَّ لها جهازهم الأمني بتدريبات خارجية وبمنهج قمعي متطور. هذا ما يسمونه وهم الخلود، يظنون أنفسهم خالدين، هم الباقون والشعب راحل، كما ظنَّ الجنرال المستبد فرانكو الذي اجتمع شعبه عند قصره وهو يحتضر، قيل له لقد جاء شعبك يودعك فقال: «لماذا... أين سيرحل شعبي؟!». وهم الخلود هو الذي يجعلهم فوق كل الشعب وفوق الحقيقة، الحقيقة التي قالت «النهاية»، وهم الخلود الذي تتسبب به السلطة المطلقة، وكل سلطة مطلقة، مفسدة. نكتتنا العربية تفوقت على نكتة فرانكو الإسبانية وستدخل التاريخ، حين شكا تونسي لزميله الليبي قائلاً: «تخيل رئيسنا احتاج إلى 30 عاماً ليقول: فهمتكم، فقال له الليبي: احمد ربك نحن بعد 40 عاماً قال لنا: من أنتم؟!». [email protected]