يبدو أن أحاديث إفك الصفقات، في سبيلها إلى أن تسقط كامل إرث ودفاعات المحرمات، التي اعتدنا على سماعها من رسميي أنظمة الاستبداد ومن لف لفها من أكاديميين وإعلاميين وبقايا ممانعين، وطبقة وسطى انحدرت انحدارها الأخير من موقعها الثقافي الذي يفترض أن تمثله، نحو مواقع «سلطة عميقة» لا قيمة لها سوى كونها جزء من رثاثة قوى الاستبداد ونظامها أو نظمها الشمولية التي لا تقيم أي وزن لقيم وأخلاقيات السياسة، وقبلها لقيم وأخلاقيات شعوبها. لهذا لم يكن غريبا أن تسقط التابوات الوطنية تباعا خلال أقل من شهر من قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب اعتبار القدس عاصمة لكيان احتلال كولونيالي، مجردا الفلسطينيين من عاصمتهم الأبدية، في توجه «بلفوري» آخر للمصادقة على تجريدهم من وطنهم التاريخي، وقطع الطريق عليهم وعلى حلمهم باستعادة جزء من وطن يراد سلخه عن محيطه العربي، وتسليمه لقمة سائغة لقطعان المستوطنين العنصريين وحكومتهم اليمينية الفاشية، لا سيما وقد وجدت من يتماثل معها في البيت الأبيض، خارقا كل الأعراف والمعايير الدبلوماسية والقانونية والإنسانية، مبتدعا أسلوبا جديدا في فن التفاوض، باسم قانون الصفقات، على اعتبار كل شيء قابل للمقايضة والبيع والشراء، حتى الوطن أو الأوطان، وليس المواقف السياسية أو الدبلوماسية، كما حصل في تحذيرات وتهديدات ترامب لدول العالم إن لم تصوت معه على قراره اعتبار القدس عاصمة لإسرائيل، ونقل السفارة الأميركية إليها. مشكلتنا اليوم ليست تحديدا مع ترامب لوحده، وما يهذي به تجاه «صفقته التفاوضية» الهادفة وكما على لسان بعض الوكلاء العرب إلى «إنهاء معاناة الشعب الفلسطيني»، بل وترتفع أصوات بعض هؤلاء، في تبن فاضح لأطروحاته الهذيانية، وهم يطلقون اليوم العنان لخيالاتهم بإمكانية تجاوز قطوع «قرار القدس» باتجاه القبول به وإقناع الناس العاديين بالتخلي عن تابو التمسك بالمقدسات، وحثهم على ذلك مقابل الحفاظ على استقرار هذا النظام السياسي أو ذاك بحماية أجهزة مخابرات داخلية وخارجية، أضحت هي وقطعان السلطة العميقة، الضمان والضامن لسيادة استقرار الاستبداد السياسي والأنظمة العسكرية والأمنية، في بلاد باتت تفتقد للسياسة والسياسيين. في هذا الخضم، لم تعد الخيارات السياسية ممكنة أو تتاح بحرية أو تؤخذ بمبدئية، صارت المواقف معلبة، تتم بالأمر وبسطحية ودون دراية بالتداعيات وما يمكن أن تؤول إليه، وليس المهم أن تنتهي معاناة الشعب الفلسطيني بما يرضي هذا الشعب، بل بما يرضي دعاة استمرار الاحتلال الكولونيالي كضامن لاستمرار استقرار أنظمة بعينها لم توجد أصلا قديما أو حديثا، إلا لأجل ذات الوظيفة التي أقيم كيان الاحتلال الكولونيالي الإسرائيلي بهدف القيام بها لمصلحة مشغليه من الإمبرياليات الغربية، إضافة إلى مهمة تكريس سرديات توراتية عنصرية زائفة، يصدقها ويصادق عليها بعضنا لأسباب تدينية، كان سهلا جدا نقضها ونفض الأوهام عنها عبر المكتشفات الآثارية التي لم تؤكد أي تفصيل صغير من تفصيلات الخرافات التوراتية في كامل أرض فلسطين التاريخية. ورغم ذلك فإن بعضنا يصر على تبني الخطيئة التاريخية في منح الرواية التوراتية وأضاليلها ليس المصداقية فقط، بل ويمد في حياتها التي سببت وتسببت لنا ولأوطاننا بالضياع ولشعوبنا بالتشريد والكوارث والنكبات المتناسلة من نكبتنا الكبرى المحروسة بسرديات الاستشراق الإمبريالي وما يتوازى معها من سرديات أنظمة الاستبداد المقيمة بين ظهرانينا. ولئن لم نكن على مستوى الحدث الجلل (قرار ترامب) لا على الصعيد الفلسطيني ولا على الصعيد العربي، فأي تحد أكبر من هذا التحدي يمكن لاستجاباتنا أن تكون على مستواه، في ظل مجموع التحديات الرئيسة التي تحيق بنا؟ لكن الأنكى من ذلك أن بعضنا مشارك بوعي منه أو بلا وعيه، في وضع المزيد من التحديات والمعوقات أمام أهدافنا الوطنية العامة، وأمام المشروع الوطني الفلسطيني الذي يجري التعاطي معه بنرجسية عالية من جهة، وباستهتار لا مثيل له من جهة ثانية. ما تبلغه الحالة الفلسطينية والعربية اليوم، إغراق في الهروب من مواجهة التحديات الرئيسة التي تواجه الموضوع الفلسطيني، الذي فقد بوصلته الموجهة للأسف، تحت أنظار وضع عربي متهالك، بعضه مشارك في معمعة القرارات الترامبية، ومتواطئ مع التغول الإسرائيلي في غض النظر عن جرائمه العنصرية والاستيطانية والعدوانية والفاشية ضد هبات المقاومة الشعبية الانتفاضية الموجهة وغير الموجهة في الداخل الفلسطيني. المشكلة الأفظع في هذا السياق، تتجلى لا في غياب أي شكل من أشكال استراتيجيات الكفاح الوطني التحرري، بل في تغييب تعيين هدف مركزي يتبناه ويجمع الكل الفلسطيني والعربي عليه، بحيث ينقلنا خطوة إلى الأمام، بعيدا عن دائرة المراوحة في الإطار التفاوضي الذي بات يفتقد عددا من بنوده الرئيسة التي حسمتها الولاياتالمتحدة بالضربة القاضية، كقضية القدس واللاجئين والحدود وحتى السيادة التي سلبها الكنيست بقرار الضم الأخير للضفة الغربية، واستباحة أراضيها وجعلها رهينة الاستيطان والمستوطنين، كما كان قرار ضم الجولان قد جعل من جميع الأراضي هناك برسم المصادرة وضمها للمستوطنات. بهذا يكون هدف التفاوض قد فقد مبرراته، مع فقدان المفاوضات ليس لراعيها الأميركي الذي ما فتئ يقدم المزيد من الوقائع والإثباتات على انحيازه للأهداف الإسرائيلية، فيما الإسرائيليون يبدون في أحسن حالاتهم، وهم يلاقون التأييد تلو التأييد، ليس من قبل مؤيديهم التقليديين، بل ومن أشقاء ومؤيدين تقليديين للفلسطينيين، انقلبوا مع الانقلاب الترامبي على السياسة، وجعلوا من أخلاقيات الصفقات وإفكها الذي لا يعترف بقيم ومعايير الاجتماع البشري، والحقوق المقدسة لشعوب وأمم الأرض، ديدنهم في مجاراة مصالح وتطلعات غير وطنية ولا قومية ولا أممية أو إنسانية. في الأخير قد لا نجد أمامنا ما يمكن الرهان عليه للخروج من حلقات الانسداد السياسي المزمن فلسطينيا وعربيا، فالاجتماعات التداولية على جانبي المسؤوليات الوطنية والقومية، لم تعد تلبي أي هدف أو تستجيب لأي أمل، في غياب أي قدرة أو إمكانات أو قرار بالعمل، في ظل هذا الخراب المعمم والتشققات والخلافات والانقسامات الداخلية والإقليمية، وهي من النوع الاستبدادي التسلطي، وهذا للأسف ما يفرّق ولا يجمع. * كاتب فلسطيني