نظام الحزب الواحد، المنتشر في نصف المعمورة، في رحلة أفول أكيدة. انتهى أولاً في بلدان المنشأ، والنهاية تنتظر المقلدين، وما اكثرهم. نظام الحزب الواحد خرج من أحشاء اكثر دول أوروبا تطوراً، كما من اكثرها تأخراً (بالمعايير الحديثة للمجتمع الصناعي). وكانت سماته غريبة حقاً: حزب واحد مقابل تعدد الأحزاب، زعيم مؤله مقابل موظف منتخب، قائد مؤبد مقابل موظف منتخب، قائد مؤبد مقابل رؤساء موقتين، أيديولوجيا واحدية «مقدسة» مقابل تيارات عديدة دنيوية، واقتصاد يحتكره موظفون مقابل آخر تحتكره شركات وأفراد. نشأ نظام الحزب الواحد، الذي أسمى نفسه توتاليتاري (كلي، شمولي)، بتخطيط مقصود في إيطاليا موسوليني ثم في ألمانيا هتلر، باسم الوحدة الصوانية للدولة، باسم النقاء العرقي للأمة، أداة التوسع في عالم الاحتراب على الأسواق. قدم هذا النموذج، بصيغة القومية-اليمينية، العمالة الكاملة بدلاً عن البطالة، والحكومة الحديدية بديلاً عن الوزارات المفككة، والسلم الأهلي بديلاً عن الصراع الاجتماعي. قبل المجتمع التخلي عن حرياته، الجمعية والفردية، مقابل السلم الأهلي والاستقرار الاقتصادي، ليكتشف أن هذه الهناءة الوجيزة هي مقدمة للخراب. ونشأ نموذج الحزب الواحد، بغير تخطيط، في صيغة يسارية على عهد ستالين في روسيا السوفياتية، بعد حرب أهلية طاحنة. وقدم هذا النموذج نوعاً من كفاية اقتصادية (سكن، تعليم، رعاية صحية، عمالة كاملة)، باسم يوتوبيا جماعية. ومن جديد قبل المجتمع التخلي عن حرياته، الجمعية والفردية، مقابل الوعد بفردوس أرضي. في كل هذه الأحوال احتكرت نخبة صغيرة، ثم فرد واحد، كل مقاليد السلطة، في جهاز يهيمن على السياسة والاقتصاد، وعلى الثقافة والمعرفة، والمعلومات، هيمنة كلية بلا منازع. كان هذا الفردوس الأرضي خانقاً لدرجة دفعت احد ابرز الروائيين (جنكيز اتماتوف) لتصويره بهيئة ضباب خانق يخيم على زورق صيادين بثلاثة أجيال (جد وابن وعم وحفيد) فتنتحر الأجيال كلها كيما يبقى الحفيد، ويعود إلى حيث انطلق مصحوباً بالخسران. فلا صيد ولا أهل. هذا النموذج أغوى الكثير من النفوس نحو كل ما هو شؤم، بمجرد التفكير في تقليده. والمقلد، كما هو شائع، يدرك ولا يدرك ما هو فاعل. المقلدون نبتوا خارج أوروبا، في الصين كما في كوريا، وفي العالم العربي، بطوله وعرضه، من مصر الناصرية إلى جزائر بومدين، ومن سودان النميري إلى عراق صدام، ومن سورية إلى اليمن. والحقيقة أن التقليد جاء في لحظة كانت فيها بقايا النموذج الأصل في أزمة توشك أن تهده هدّاً. ويوم تساقطت أحجار النمط الواحدي، الواحدة تلو الأخرى، منذ إصلاحات غورباتشوف عام 1985، بدا أن العرب (وغير العرب) لم يسمعوا بذلك. ولعلهم تظاهروا بأنهم لم يسمعوا بذلك. مصائر زعماء الأنظمة التوتاليتارية كوميدية وتراجيدية. موسوليني، الذي كان يمثل دور الرجل العظيم أمام الكاميرات، انتهى بفعل إخفاقاته الحربية، فانقلب عليه حزبه، ليطرده ويضعه في السجن، وكان سيتعفن هناك لولا فرقة إنقاذ من القوات الألمانية الخاصة أعادته إلى الحكم بقوة الدبابات، لينتهي أسيراً لدى الأنصار الإيطاليين الذين نفذوا به حكم الإعدام. موسوليني يذكرني بالقذافي في سماجته وسذاجته، معلوماته الضحلة (اوباما هو أبو عمامة، وشكسبير هو شيخ زبير- بحسب العقيد وديموكراسي- ديمقراطية هي اديموا الكراسي!). كما أن موسوليني قريب الشبه بالسادات، في أكاذيبه وانتفاخه، ولا يختلف كثيراً عن النميري، الذي تحول بين عشية وضحايا من زعيم ثوري إلى إمام. خذوا هتلر. انتهى هو الآخر بعد سلسلة من مغامرات عسكرية كارثية، انتهت باحتلال بلاده. واختصار عمر الرايخ الألماني (الدولة) من ألف عام إلى ألف يوم! أو خذوا ستالين، الذي سماه رئيسه «الآسيوي الجلف». لقد حول روسيا تشيخوف وتشايكوفسكي، إلى سجن كبير وتصور نفسه مخلداً في قبر زجاجي يكون مزاراً مقدساً للأجيال، فانتهى إلى إدانة محقت اسمه وتراثه، وفتحت باباً للإصلاح تعثر وطال. ثنائي هتلر- موسوليني يذكرني بصدام حسين. ذات مرة اتصل هذا الأخير بمسؤول شيوعي (أظنه فخري كريم) ليطلب منه الأعداد الكاملة لمجلة الحركة الشيوعية العالمية، المسماة «قضايا السلم والاشتراكية» بدعوى السعي لتثقيف نفسه بالاشتراكية العلمية! بعد اشهر طلع مقال بقلم طارق عزيز – تأليف صدام حسين بعنوان: بناء الاشتراكية في بلد عربي واحد! وهو عنوان نظرية ستالين عن بناء الاشتراكية في بلد واحد. هتلر مات منتحراً مع كلبه، ستالين قام بفعل إنساني وحيد: أن يموت مثل البشر، صدام حسين اختبأ مثل الجرذ في حفرة، واستسلم مذعوراً خلافاً لولديه، لينتهي متدلياً بحبل مشنقة. النظم التوتاليتارية الأصلية قامت بمقدار هائل من التصنيع، وبنت جيوشاً حديثة، وطورت العلم، ووفرت قدراً من الكفاية المادية مقابل استلاب كلي وشامل للحريات. أما النسخ المقلدة فعجزت عن كل ذلك، وسارت من فشل إلى فشل. نجاحها الأقوى هو تقنيات القمع، وأجهزة العنف، لا ضد عدو خارجي، بل ضد مجتمعها بالذات. ونجاحها الأبرز هو استبدال النخبة التكنوقراطية بنخبة عائلية، وتحويل الثروة العامة إلى ثراء خاص. نحن نعلم أن لا مستقبل لنظام الحزب الواحد. ويفيدنا التاريخ أن هذا النظام (أو اللانظام) حين يفشل في وعده اليوتوبي يبدأ بستر الحقيقة بدثار سميك من الأكاذيب. لقد خرج الكثير من هذه النظم الأصلية بحركات احتجاج قاعدية، مدنية، دون إطلاق رصاصة واحدة. ولم يخرج بعضها إلا بعد حروب ودماء ، في قارة المنشأ. أما في «قارة الأوبئة» فإن بوسع هؤلاء الزعماء أن يصموا التوق إلى الحريات المدنية الحديثة بكل وصمة يشاؤون، بالخيانة، أو بالعنف، بالسلفية، أو بالأصولية، بالطائفية أو بالتطرف، بخدمة الدولار، أو بخدمة الشيكل. لكن لا مناص من الإصلاح، بإلغاء نظام الحزب الواحد وإرساء التعددية. لعل السياسيين يريدون ذلك، بينما العسكر يحبون الدبابات. محتكرو وسائل العنف لهم اليد العليا الآن. لكن هذا مجرد تأجيل.