في روايته الخامسة «حياة كاملة» (ترجمة ليندا بدر، دار التنوير) يكتب روبرت زيتالر، الذي ولد في فيينا (1966) وعاش في برلين، عملاً يتميز بحساسية خاصة تجاه التفاصيل الصغيرة التي نعيشها. أندرياس إيغر، الشخصية الرئيسة في الرواية، هو رجل لا يتحدث كثيراً، وهذا ما نفهمه، عبر تتبع الحكاية، بأنه تعبير عن مشاعر داخلية تتأرجح بين التعقيد والارتباك. يرى أندرياس أن البلاغة الحقيقية في أن يعمل المرء من دون أن يحتاج إلى الكثير من الكلام. والغريب أنه لم يصرخ حين ولد، كما أنه لم يتكلم حتى عامه الأول من الذهاب إلى المدرسة، وكأن الصمت مسألة قدرية أكثر من كونها مجرّد خيار شخصي. عام 1902، عندما كان في الرابعة من العمر، وصل أندرياس إلى قرية جبلية حيث قضى حياته مع أحد أقاربه. وتبدو تلك الحياة- وفق ما يصفها لنا الكاتب- قاتمة ووحشية نسبةً الى طفل صغير. يُطلب منه أن يعمل مع مزارع يعاقبه أشد العقاب على أبسط الأخطاء، كاندلاق الحليب أو التأتأة أثناء الصلاة. لم يكن إيجر يصرخ أبداً، وهو ما كان يدفع المزارع الى ضربه بقسوة أكبر. لكنّ هذه التفاصيل كلها جعلت أندرياس ينمو قوياً، بل أقوى من أي شخص آخر في القرية. ومع كل ما كان يعاني منه من حرج التلعثم والبطء في الكلام، كان يمتلك قوة بدنية هائلة. وفي تسلسل ملحوظ لوعيه بهذا الأمر، قرر أندرياس في الثامنة عشرة من عمره أن يثور على واقعه، فرفض للمرة الأولى أن يضربه المزارع: «لو ضربتني مرة أخرى، سوف أقتلك». يُصدم الرجل، ثم يأمر الصبي بالمغادرة. ومن خلال هذا الحوار القصير، وحوارات أخرى تشبهه، تبدو لافتة بساطة الحوادث ومساراتها. حضور أندرياس أيضاً يبدو بسيطاً. لكنّ الكاتب يحاول أن يصوّر من خلال هذا العالم المحدود (قرية جبلية) دراما مكثفة وهادئة في الوقت ذاته: من اللحظات الرتيبة لأيام بطل الرواية، وصولاً الى الحوادث التي تترك خلفها صدى في حديث أهل القرية. في لحظة ما، يصل التقدم التقني إلى القرية الموجودة في واد بعيد. يتمثل هذا التطور في إقامة شركة تلفريك. ينضم أندرياس إلى القوى العاملة في هذه الشركة، ومن ثم يستجمع شجاعته وثقته ليعرض على ماري الزواج منها، فتقبل به. في إحدى الليالي، ومن بين الجبال الشاهقة وقع انهيار ثلجي مهول. استيقظ أندرياس على الصوت، فراحت تنهال الثلوج عليه وتحيط به وتدفعه كأنه موجة كبيرة. وبهذا المشهد تبدأ المأساة التي تغير كل شيء في حياته. ثمة حرب تلوح في الأفق. وحين تصبح واقعاً، يرفض أندرياس أن ينضم كمتطوع، لكنه في نهاية المطاف يُجنّد فيها ويُرسل إلى الجبهة الشرقية. يقبضون عليه هناك، ويرسل إلى معسكر العمل ويبقى فيه لمدة ثماني سنوات. وبعد عودته إلى القرية، يتكيّف مع التغيرات التي طاولت الحياة فيها أثناء غيابه. يعمل كدليل للسياح ويدلهم على المناظر الطبيعية التي عاش فيها بعدما أصبحت مزاراً. لا يقدم أندرياس بطل روايته على أنه مجرد ضحية لحركة القدر. بل هو الناجي الذي حاول أن يتطور، وأن يتخطى صعوبات ولدت معه، أو صادفته نظراً الى ظروفه أو طبيعة شخصيته. وفي انتقاله من حدث الى آخر، كانت خبرته الحياتية تزداد وتتعمق.