منذ ما يزيد على20 عاماً، أثّر عمل غير أناني صدر عن شخص غريب كلّياً، في مجرى حياة الكاتبة الأميركيّة أبيغيل مارش. وشكّل ذلك العمل العابر نقطة انطلاق في تأليفها كتاب عنوانه الكامل هو «عامل الخوف: كيف تربط عاطفة واحدة الغيريّين والسيكوباثيّين وكل شخص بينهما» Fear Factor: How One Emotion Connects Altruists, Psychopaths & Everyone in Between. قرّرت مارش التي باتت حاضراً عالِمَة مختصًة في علم النفس الاجتماعي Social Psychology دعوة القرّاء إلى الانضمام إليها في رحلة استكشافها للعلوم الحيويّة المسؤولة عن التصرّفات الغيريّة Altruistic التي تبدو لكثيرين كأنها خارجة عن المألوف. ويطلق تعبير التصرف الغيري على السلوك الذي يعطي أولوية لمساعدة الآخر، حتى لو أثّر الأمر سلبيّاً بدرجة أو اخرى في صاحب ذلك التصرّف. وتعتبر الغيريّة صفة أساسيّة في التآزر والتعاطف الإنسانيّين، وهو النقيض للأنانيّة. وفي كتابها هذا، حوّلت مارش بحوثاً علميّة واسعة إلى لغة سردية سهلة الفهم. وضمّنته أجابتها عن السؤال حول السبب الذي دعا رجلاً لا يعرفها إطلاقاً إلى المخاطرة بحياته لإنقاذها، ملقية الضوء على العلاقة المعقّدة بين الخوف والغيرية وأحد أنواع اضطرابات الشخصيّة هو المعروف باسم «سايكوباثي» أو «النفسية المريضة» بترجمة تقريبيّة. وبهدف دراسة الغيريّة كسلوك بات غير مألوف حاضراً، غاصت مارش في غياهب علوم النفس وعلم الأعصاب، وجالت بين ثنايا الدماغ، كاشفة النقاب عن الدور الشامل الذي تؤدّيه غدّة في المخ تعرف باسم «اللوزة» Amygdale في عواطف كالخوف والاستنفار في مواجهة المخاطر. وكذلك راجعت مجموعة من الدراسات التقليدية عن الموضوع، على غرار البحث المثير للجدل الذي وضعه ستانلي ميلغرام عن موضوع الإذعان. وفي سياق تطوير كتابها، استندت أبيغيل إلى دراسات مصوّرة عن واهبي الكلى الذين يشكّلون خير مثال عن غيريّة تفوق المألوف. وفي «عامل الخوف»، قدّمت تأكيدات وقرائن متكرّرة، تفيد بحساسية الإنسان حيال الشعور بالخوف لدى الآخرين، وأنّه مرتبط بقوّة مع الغيريّة الفائقة و «النفسيّة المريضة»، وكذلك الحال بالنسبة إلى الأفراد العاديّين. إذ يُظهِر الغيريّين حساسية عالية إزاء الخوف الذي ينتاب الآخرين، وعلى عكس ذلك يكون أصحاب «النفسيّة المريضة» غير مبالين بخوف الآخرين، بل إن تلك اللامبالاة هي أساس في اضطراب شخصيّاتهم واعتلالهم نفسيّاً. ويشكّل نشاط الغدة اللوزية في الدماغ، خصوصاً إفرازها مادة ال«أوكسيتوسين» Oxytocin البعد البيولوجي لتلك الأنماط من السلوك. كيف يترجم الدماغ «البطولة»؟ عبر فصول الكتاب، تتنقّل مارش بين السلوك البطولي و«اللابطولي»، ودماغ المضطرب نفسيّاً والجهاز العصبي عند الأطفال المعرّضين لأن يصبحوا من أصحاب النفسيّات المريضة. وكذلك تتعمق في دراسة السلوك الغيري الفائق (ومعطياته البيولوجيّة أيضاً)، لتخلص إلى اعتباره أساساً للتعاطف بين البشر. وينتهي «عامل الخوف» بفصل يتناول قدرة البشر على التحسّن والخروج من الأنانيّة، فرديّاً واجتماعيّاً. ويورد الكتاب سجلاً طويلاً عن المؤلّفات التي تناولت موضوع الخوف وتخطّي التوتّر، وتعديل السلوك للتأثير في أنماط تشغيل الخلايا العصبيّة، والجوانب التقنية للغدة اللوزيّة في الدماغ، والاستنتاجات المختبرية المفصلة. والأرجح أنّ «عامل الخوف» نجح في سدّ فراغ ومدّ جسر بين المؤلفات المتنوّعة عن موضوعه. إذ تسبغ نصوص مارش المليئة بالحركة، حيويّة متدفّقة على الدراسات العلمية والمواضيع التقنية. وتنقل صراحتها في شأن مسيرتها المهنية تنقل فرحة تأتي من الاكتشافات العلمية والتواصل الدولي. ويتميّز عملها عن تلك الكتابات العلمية التي تعتمد أسلوب التعميم، بدل تفصيل مواضيعها بطريقة مبسّطة. ومع مزيج التحقّق العميق والتجارب البحثيّة التي تتمتّع بطابع شخصي، تنشأ كتابات أكثر إثارة بكثير من تلك التي اعتاد الأكاديميّون على كتابتها. على خلفية ما سبق، نرى أنّ بعضاً من أقسام الكتاب يطول كثيراً. ومثلاً، يمتدّ الفصل السادس على 33 صفحة، قبل أن يفصح صراحة عن موضوعه المتمثل في الدور الحيوي ل «أوكسيتوسين» في مواجهة الشعور بالخوف. وكذلك يثور سؤال في شأن المجموعة الكبيرة من الصور التي ثبتتها أبيغيل في الكتاب لتعزيز الكلمات المكتوبة فيه. هل كان يكفي إدراج صورة عملية أو صورتين بالرنين المغناطيسي لتعزيز أبرز الآراء في «عامل الخوف»؟ وكذلك يعطي الفصل ما قبل الأخير من الكتاب، تحت عنوان «هل يمكن أن نبلي في شكل أفضل؟»، أربع توصيات يرى أن تنفيذها كفيل بأن يصبح المرء أكثر غيريّةً. وبمعنى ما، بدا الفصل كأنه خروج عن الموضوع الرئيسي للكتاب أو تحوير له، فجاء مترنّحاً لكثرة ما استفاض في أمور خارجة عن الأفكار الأساسيّة للكاتبة.