مرّت سلوكياتنا الغذائية بتحولات كثيرة أثّرت في انتقائنا للأطباق التي نقرر أن نأكلها. وهذه السلوكيات ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالتحولات الاجتماعية والاقتصادية والأنتروبولوجية. فبعد توجّه غالبية البشر إلى «الوجبات السريعة» في عصر السرعة والعولمة، يبدو أن تحوّلاً وإن طفيفاً طرأ على سلوكيات التغذية خلال السنوات الخمس الماضية، وهو التوجّه نحو الغذاء الأخضر والمنتوجات العضوية أو البيولوجية الخالية من المبيدات والمواد الحافظة. وقرأنا الكثير عن «حمّى المواد العضوية» ومنتوجاتها الباهظة الثمن التي أصبحت «موضة» العصر في أنحاء العالم، خصوصاً في أوروبا والولايات المتحدة. وكنتيجة ل «الوجع» الصحي المتأتي من النظام الغذائي السريع والمصنّع، كما يقول الخبير في الغذاء التقليدي وثقافة الغذاء الدكتور رامي زريق، جاءت عملية إعادة الاهتمام بملف الأغذية التقليدية والبحث عن بدائل عن الأطباق السريعة غير الصحية واللجوء إلى بدائل صحية طبيعية كالمونة المنزلية. فقد انتشرت أخيراً، ظاهرة بين جيل الشباب والمخضرمين في لبنان (أعمارهم بين 25 و50 سنة) بنشر صور على وسائل التواصل الاجتماعي، لمنتوجات المونة التقليدية التي يصنعونها بأيديهم، ويتباهون بها عبر تويتر وفايسبوك، أو في مجالسهم بين الأصحاب والأصدقاء وزملاء العمل. والمونة المنزلية هي عبارة عن حفظ أنواع مختلفة من الأطعمة والفاكهة والخضار في أوقاتها الموسمية الطبيعية لضمان وجودها في فصل الشتاء. وتشمل كلمة المونة الخضار والبقوليات والمخللات والمربيات والحبوب والنباتات والسكر والزهور والأعشاب والحبوب الكاملة وأنواعاً مختلفة من الشراب. وهي عادة توارثتها الأجيال في لبنان وهي من التراث اللبناني الاجتماعي والغذائي، خصوصاً في المناطق الريفية والجبلية البعيدة عن المدينة حيث يكون البرد قارساً وتهب العواصف الثلجية فتقطع الطرق وتقفل أبواب الرزق. ولكل نوع من المونة موسمه الخاص، لكن غالبية أنواع المونة تصنع بين أواخر آب (أغسطس) وأواخر أيلول (سبتمبر). وتعدّ عادة المونة المنزلية الجدات والنساء الكبيرات في السنّ. ولكن هذا التقليد انتقل مع الوقت إلى المدينة من خلال أبناء القرى المدينيين الذين نقلوا معهم عاداتهم وتقاليدهم إلى المدن التي سكنوها. منتوجات صحية واقتصادية كارولين (36 سنة) نشرت صورة على فايسبوك لأطباق من ربّ (شراب) البندورة مصفوفة على شرفة منزلها في شحيم. وكتبت: «هذه الصواني من ربّ البندورة صنعناها أنا وأمي في القرية في عطلة نهاية الأسبوع. متعة صنعها لا تُضاهى وطعمها الزكيّ يذكرني بجدتي». وتقول كارولين ل «الحياة»: «عندما بدأت أتعمق في ثقافة الغذاء وما هو صحّي وما هو غير صحّي، اكتشفت أن كل ما كنا نستخدمه من معلبات وأطباق جاهزة وفاكهة وخضار مثلجة وكونسروة، معتبرين أننا نوفر على أنفسنا الوقت والجهد، كانت تؤسس لأمراض خبيثة وموت بطيء». وأضافت: «أنا من قرية شحيم في جبل لبنان وجدودي كانوا يعتمدون على المونة وتخزينها للشتاء القارس، لكن أمي عدلت عن ذلك، على اعتبار أن في السوبرماركت نجد ما نريد في غضون دقيقة من دون تعب أو كلل وجلوس في الشمس لصنع المربيات مثلاً أو رب البندورة». وتتابع: «اليوم أنا وأختي حضضنا أمي على العودة إلى المونة من أجل نظام غذائي صحي وطيّب المذاق وأقل كلفة اقتصادياً. فقررنا أن نخصّص وقتاً من عطلتنا الصيفية، لنصنع مونتنا من المربيات والمكدوس والزيتون وربّ البندورة في البيت وأخذنا الوصفات من الجدات في القرية». وتشير كارولين التي تحمل شهادة جامعية وتعتلي منصباً مرموقاً في عملها في بيروت: «في كل شيء هناك المرة الأولى، فقد فشلت مثلاً في صنع مربى التين في البدء، لكنني نجحت في ربّ البندورة». التجارة البديلة هدف كارولين من اللجوء إلى المونة التقليدية صحي بامتياز، أما هدف سعاد فهو اجتماعي– اقتصادي وانتروبولوجي. ابنة البقاع التي عاشت بين باريس ونيويورك ودول الخليج، ترفض القول إن المونة هي ظاهرة عادت إلى الشباب اليوم. وتقول: «لم تختفِ المونة من المنازل في لبنان، فمن لا يصنعها ولا يفقه في ذلك، خصوصاً من أبناء العاصمة بيروت كانوا يشترونها من أبناء القرى». وتفيد: «لقد سافرت كثيراً بين مدن العالم وكانت المونة هي من أثمن الأغراض التي أنقلها من سكن إلى آخر، فهي تذكرني برائحة أمي وجدتي وتشعرني بالأمان والتعلق بالأرض». وتتابع: «أهلي ولدوا في بيروت مع أن جذورنا من البقاع، لكن بيتنا لم يخلُ من الكشك والبرغل والمكدوس والزيتون والمربيات وماء الزهر وماء الورد وغيرها من المؤن الريفية التي كانت قوتنا اليومي، خصوصاً في الشتاء». وتشرح سعاد المدافعة عن أهمية المونة في تنشيط الاقتصاد الريفي، خصوصاً لدى النساء الريفيات، أن «العالم يعاني اليوم من كوارث بيئية وصحية نتيجة لنظام غذائي سيّئ اتبعه الإنسان في العصر الحديث يرتبط بنظام اجتماعي واقتصادي وبيئي وبإيقاع الحياة العصرية، لذا ينادي الناشطون البيئيون اليوم بالتوجه نحو التحول الصناعي الأخضر والمنتوجات العضوية والصحية». سعاد أسست قبل 3 سنوات ومجموعة من النساء في قرية بقاعية في شرق لبنان، مبادرة لصنع المونة المنزلية من منتوجات عضوية بيولوجية، هدفها مساعدة أبناء الريف من ذوي الدخل المحدود أو من العاطلين من العمل (خصوصاً النساء منهم) ليكونوا «مستثمرين جدداً ويشكلوا جزءاً من تجارة بديلة بعيدة عن اقتصاد السوق التي تدمّر هذه الفئة من الناس المهمّشة»، كما تؤكد. وتضيف: «ضربنا عصفورين بحجر واحد: مأكولات صحية وتشغيل أهل الريف وبناء تجارة بديلة». ولا تنسى سعاد طبعاً أن تنشر صور مونتها ونساء القرية في كل صيف، على مواقع التواصل الاجتماعي «للتباهي ولتشجيع غيري على الاتجاه نحو المونة». العودة إلى الجذور إبراهيم ابن السبعين سنة، كان يعمل أستاذاً جامعياً في بيروت. وعندما تقاعد قرر العيش في قريته في مشغرة (جنوب شرقي لبنان) والتفرّغ لمونة بطلب من ابنته العشرينية المتخصصة في التغذية. «أمضي الصيف في مساعدة زوجتي وبناتي على تحضير المونة، ننتقي أجود أنواع الباذنجان من سهل الهرمل في بعلبك، والبندورة من مشغرة، والقمح من زحلة، ونجمع اللبن وحليب الماعز للكشك من أكثر من مصدر ومُزارع في القرى المجاورة لقريتنا»، كما يروي ل «الحياة». ويضيف: «نحن عشنا فترة طويلة في الخارج وكان الحنين إلى القرية والجذور يعنّ على البال كالوجع، لذا عدنا ونختار منتجاتنا من أفضل البساتين، وأنا أستمتع بذلك لكوني أجمع بين السياحة بين القرى وهي أشبه بسياحة بيئية في البساتين ومزارع الماشية، وبين تبديد الوقت ومساعدة زوجتي وبناتي». ويشرح إبراهيم: «لم يعد لدي عمل الآن، فالقراءة وتحضير المونة هما عملي وشغفي. فأنا أحب الطهو أيضاً. ومنذ خمس سنوات نشارك أنا وزوجتي في معارض تقام في بيروت وضواحيها للمونة المنزلية، وصار لدينا زبائننا الموسميون. نبيع شراب الحصرم والمكدوس والكشك والكبيس (المخلّل) واللبنة المكعزلة والمربيات». ومواقع التواصل الاجتماعي وخصوصاً فايسبوك هي وسيلة تتولاها ابنة إبراهيم للتسويق «لمؤنه والافتخار بالصناعة اليدوية الريفية»، كما يؤكد. طقس جماعي جميل هذه النماذج الثلاثة اخترناها من بين العشرات الذين التقيناهم وبدأوا يهتمون بصناعة المونة المنزلية في السنوات الثلاث الماضية، أو يعودون إليها بعد انقطاع. وغالبية هؤلاء أكدوا أن المونة أصبحت نمط حياة بالنسبة إليهم ويخصصون لها وقتاً مع أن الوقت اليوم يُشترى بالمال. وتقول سميرة (45 سنة) وهي مدرّسة، إنها تأتي إلى قريتها بعلشميه في جبل لبنان بين 15 آب و15 أيلول، لتصنع كل مونتها، «الموضوع ليس فقط طعماً طيّباً وتوفيراً اقتصادياً وإنما هو طقس جميل حيث تجتمع نسوة القرية والأقارب من الرجال والنساء والكل يساعد الكل. هو طقس اجتماعي جماعي وعائلي أُصرّ على أن أورثه لأولادي ليبقوا مرتبطين بجذورهم وأربيهم على ذلك». تحليل علمي انتروبولوجي لماذا يعود اللبنانيون اليوم إلى المونة؟ وهل تركوها أصلاً؟ يقول الخبير في ثقافة الغذاء والأستاذ المحاضر في الهندسة الزراعية في الجامعة الأميركية في بيروت رامي زريق: «الناس لم تترك المونة في حياتها. ولكن اليوم تنبّهت لها بفعل التثقيف الصحي والغذائي الحاصل عالمياً على أثر الردّ العكسي على التحوّلات الغذائية التي حصلت في السنوات العشرين الأخيرة التي بنت نمطاً غذائياً مختلفاً عن النمط التقليدي المحلي (مثل المونة) وهو نمط غربي أو ما يعرف بالأكل السريع». ويضيف: «هذا النمط ابتعد عن الحمية المتوسطية التقليدية المبنية على كميات أكبر من الخضار والفاكهة والحبوب الكاملة». ويشرح زريق صاحب كتاب «من عكار إلى عامل» حول المونة اللبنانية، أن «هذا التحوّل أوجعنا وأثر سلباً في صحتنا، فجاءت إعادة اهتمام أو فتح ملف الأغذية التقليدية (وهو ملف لم يغلق قطّ) والتطلّع إلى بدائل أهمها المونة المنزلية، كعملية مضادة». ويرى زريق أن هذا التنبّه والاهتمام الواضح بالمونة الحاصل أخيراً وهي ظاهرة ليست جديدة برأيه، «يعودان إلى عناصر كثيرة أولها الوعي والثقافة الصحية، والتعلق بالقرية والجذور والقيم الريفية، والبحث عن التميّز في الغذاء، خصوصاً لدى الشباب كما يلجأ أناس مثلاً إلى الأكل الآسيوي أو الإيطالي خصوصاً لدى الطبقات الميسورة». ويتابع: «هناك سبب يعود إلى البحث عن الطَعْم الطيّب والطبيعي في المذاق والذي يربط الإنسان بالماضي والذكريات، وهذا مثبت علمياً لكونه يأخذنا إلى مكان آمن سايكولوجياً في اللاوعي الجماعي»، مستشهداً هنا برواية «البحث عن الزمن المفقود» للروائي الفرنسي مارسيل بروست وحكايته عن حلوى مادلين التي تأخذه إلى ذكرياته مع جدّته. ولا ينسى زريق أن يذكر أن هناك سبباً لا ينفصل عن الأسباب السالفة، وهو «الوضع الاقتصادي والمعيشي الصعب الذي يعيد الناس الى المونة والطعام التقليدي لما فيهما من توفير اقتصادي خصوصاً على العائلات الكبيرة».