لم يكن في بال مارك زوكربيرغ يوم أسس موقع «فايسبوك» قبل خمس سنوت وكان له من العمر 19 سنة، ان الموقع سيكون «ميدان تحرير» يجتمع فيه شباب وشابات من العالم العربي، ليعبّروا عن إحباطهم وحزنهم وغضبهم ودموعهم وأحلامهم الضائعة... لم يكن في باله ان موقعاً إلكترونياً هدفه التواصل الاجتماعي، سيكون بوق الثورة وينادي بالتغيير. كما لم يكن في بال القيّمين على مجلة «تايم» الأميركية، عندما اختاروا زوكربيرغ وفضّلوه على جوليان أسانج، مؤسس موقع «ويكيليكس» صاحب تسريبات وثائق الخارجية الأميركية، أن الأول سيحقق ما لم تستطع أن تحققه حكومات غربية ومؤسسات حقوقية كبرى، ويفتح نوافذ على الحرية والديموقرطية لشعوب بائسة، وينظّم ثورت واحتجاجات، ويجدّد وجه العالم العربي بعدما تعب وشاخ وهرم. والمفاجئ أكثر، أنه لم يرِد في بال أيّ مرجعية سياسية أو ديبلوماسية أ استخباراتية أن تبادل مجموعات شبابية بعض الكتابات على صفحات الإنترنت، تعبيراً عن إحباط وألم وغضب وحزن، في عالم افتراضي بحت، قد يجمع مليون شاب ذات يوم تحت شمس ومطر وهراوات شرطة، يهتفون صوتاً واحداً: «الشعب يريد إسقاط النظام». والمليون يجرّ مليوناً، ومليونين وثلاثة. كما تجرّ الثورة ثورة، وخلفهما أحلام الشباب الثوّار. أحلام متواضعة جداً، وبسيطة جداً جداً، لكنها أساسية! أوّلها حرية التعبير: أقول رأيي، إذاً أنا موجود! ومع وائل غنيم، (32 سنة)، المسؤول التنفيذي في شركة «غوغل» الذي أطلق الثورة المصرية من صفحة على «فايسبوك» واعتقلته قوات الأمن المصرية 12 يوماً، تغيّرت صورة البطل العربي» فهو لم يعد فارساً يلوّح بسيفه ولا بخطبه الرنانة، ولا يمتطي دبابة ولا انقلاباً. البطل شخص عادي مثلنا تماماً: يخاف ويُحبط وينهار ويبكي ويستلّ من إحباطه شجاعة ليُكمل الطريق... هو بطل لأنه يملك العزيمة ليستمر في عيش كلّ هذه المشاعر، ويعبّر عنها من دون خجل أو خوف، وبطل لأنه تجرأ أن يحلم في زمن الخيال الشحيح والرقابة المفروضة، حتى على التمنيات! «الناس الذين يجلسون هنا، في «ميدان التحرير»، هم ممن يحلمون. كلنا من الحالمين. عندما أنشأت صفحة خالد سعيد على الفايسبوك، كنتُ حالماً، وأنا مقتنع بأننا كلنا حالمون». تختصر كلمات وائل غنيم هذه حال الملايين من الشباب العرب الغارقين في يأسهم والمتشبثين بقشّة حلم، وتجيب عن أسئلة المحللين الغائصين في درس أسباب الثورة ومن يقف وراءها. الحلم فسحة أمل، منفذ للخروج من ظلمة حالكة ونفق طويل من الإحباط واليأس المقنّع. الذين نثروا الياسمين في تونس هم أيضاً من الساعين وراء حلم يكسر عزلة يأسهم، الحلم بشيء من الديموقراطية والحرية واللقمة الشريفة والحقوق المدنية الأبسط. والمؤسف ان كل تقارير المقرّبين من الحكام والمستشارين والاستخباراتيين لم تلاحظ يوماً أحلام 60 في المئة من الشعب المصري، لا تتجاوز أعمارهم ثلاثين سنة، ولم تُدرج فيها آمالهم وتطلعاتهم ولا خيباتهم ونكساتهم النفسية. هُمّشوا، وغُيّبوا. تُركوا للإحباط يتآكلهم، حتى الانفجار. فما الفائدة إذاً من التغنّي في المؤتمرات العالمية وفي كتب الجغرافيا، بأننا أمَّة فتيّة شابّة إذا كنّا لا نحسب حساباً لهؤلاء الشباب، وحقهم بحياة كريمة في أحضان وطنهم؟ يتحدّث علم النفس الحديث عن أزمة ربع الحياة، وهي الأزمة التي يعيشها شباب في ريعان العمر، تراوح أعمارهم بين الثالثة والعشرين والثلاثين سنة، تخرّجوا بآمال كبيرة وأحلام أكبر، مبنية على أفلاطونيات الكتب، لكنهم سرعان ما وجدوا أنفسهم أمام جدار البيروقراطية الحصين والمحسوبيات والوساطات والفساد، والقمع النفسي وكمّ الأفواه. وها هي الثورة تطلّ على غفلة، وفيها النهضة ضد الإحباط والكآبة والاستسلام السهل لواقع ظالم. عودة الى الحياة في انسيابها العظيم في اتجاه المستقبل والتغيير... فكيف لا نكون كلنا ثواراً؟ قد تكون جريمة الرئيس الليبي معمّر القذافي الأفظع أنه أغرق أحلام الثوار بالدماء والأشلاء والجثث، وسرق من الشباب العرب، كلّ العرب، الذين انتشوا بثورتي تونس ومصر، سرق منهم نقاوة تدفقهم كحلم في اتجاه مستقبل مختلف وأفضل. ولو قرأ زعيم ليبيا «نبيّ» جبران لعرف أن «الحياة لا تقيم في منازل الأمس»... وويل، ألف ويل لمن ينظر الى وراء، فيتحوّل عمود ملح * نائبة رئيس تحرير الزميلة مجلة «لها»؟