ضمن سلسلة المعارض الاستعادية التي يخصصها مركز «بومبيدو» لأبرز وجوه الفن المعاصر، انطلق حديثاً معرضٌ مثير لأحد عمالقة التجريد الهندسي في فرنسا، الفنان فرنسوا موروللي (François Morellet)، يهدف إلى تسليط الضوء على جانبٍ فريد من عمله: التجهيزات. ولهذه الغاية، دُعي الفنان إلى إعادة تشكيل عددٍ من هذه الأعمال داخل فضاء هذا الصرح العريق، بطريقةٍ نتج عنها مسارٌ متنوع ومليء بالمفارقات والصُّدف، نتلقى داخله صدماتٍ بصريةً، إنْ من خلال وقع الخطاب المسيّر في هذه الأعمال وفي طريقة توزيعها، أو من خلال الجمال الذي نستشفه ونتذوقه بمتعةٍ كبيرة داخلها. التجهيزات الأولى التي نشاهدها في المعرض تعود إلى بداية الستينات، أي إلى المرحلة التي انخرط موروللي فيها داخل «مجموعة العمل على الفن البصري»، التي ضمت ستة فنانين أقدموا على فضح الغموض والجانب الخدّاع (mystification) لعملية الإبداع الفردانية، ودعوا إلى تحقيق أعمالٍ فنية يتطلب إنجازها التدخّل الجسدي للمتأمل فيها وإن أدى ذلك إلى فقدانه التوازن داخل المتاهات المقترحة أو إلى انبهاره بمفاعيلها الضوئية العنيفة. أما التجهيزات الأخيرة فتعود إلى فترة العشر سنوات الأخيرة وتشهد على استمراريةٍ، ضمن تنويعاتٍ لا تُحصى، في مسعى يُشكل ضوءُ النيون (néon) وخطُّ القلم أو الشريطُ اللاصق على جدارٍ والرافدةُ الخشبية وغصنُ الشجرة، بعضَ مفردات اللغة التجريدية الغالية على قلب الفنان. وتجدر الإشارة أولاً إلى أن موروللي نجح في تجسيد تلك المفارقة القائمة على مزاوجة التجريد الهندسي الشهير، بتقشف أشكاله ودقّته الشديدة، مع الحرية والوقاحة اللتين اعتمدهما بعض الفنانين لقلب القواعد السائدة، منذ الحركة الدادائية. وما يُفسر هذا النجاح هو بلا شك فرار الفنان من أي تعليم أكاديمي. لكن هذا لا يعني أنه فنان متعلم كلياً على ذاته، فمحيطه العائلي وضعه منذ البداية في اتصال مع عالمَي ألفرد جاري وألفونس ألي الأدبيين، ومع وجوهٍ فنية مهمة، مثل شابلان ميدي وراوول دوفي. ومع أنه بدأ باكراً بممارسة الرسم وبإقامة علاقات مع الأوساط الفنية، لكن ولادته الحقيقية كفنان حصلت على أثر زيارته لمتحف» الإنسان» الباريسي، حيث عثر على الشبكات والأنظمة الفنية التي كان يبحث عنها داخل النماذج الهندسية المكررة إلى ما لا نهاية، التي تزيّن بعض الأقمشة الأوقيانية، ثم اكتشافه بعد ذلك بقليل فنَّ ماكس بيل الملموس واختبارات موندريان المجرّدة. أما ما يميز عمله الفريد ويمنحه قوته ويجذبنا نحو ذلك التجريد المحرَّر من أي تقليدية، فهو بالتحديد تلك الحرية القصوى التي يشهد عليها هذا العمل، على رغم عددٍ من القواعد والإكراهات التي التزمها موروللي فيه. وفي هذا السياق، قال عام 1971: «خلال فترة عشرين عاماً أنتجتُ بعنادٍ أعمالاً منهجية ارتكزت على تقليص قرارتي العبثية إلى أبعد حد. وللحد من حساسيتي كفنان، ألغيتُ مسألة التشكيل، ومعها أي اهتمام بعملية تحقيق العمل الفني، وطبّقتُ بدقةٍ صارمة أنظمةً بسيطة وبديهية قادرة على التطور إما بفضل الصُّدفة الواقعية أو بفضل المشاركة الحيوية للمتأمل بها في إنجازها». فنانٌ تجريدي بامتياز، لم يمتنع موروللي عن ممارسة الفن التصويري، كما في لوحاته الشهيرة «تشويهات»، أو عن مقاربة الإروسية كموضوع، كما في أعمال «هندسات داخل التشنّجات». وفي هذا السياق، وضع شخصية «موناليزا» في حالة ارتعاش وأعاد تشكيل لوحة كلود مونيه «كاتدرائيات مدينة رووان» عبر أضواء النيون، وأدخل عناصر طبيعية على تشكيلاته الهندسية المجردة، ولمّح إلى فن المشهد في عمل «تَيهور». ويسمح هذا الجانب من عمله بمقارباتٍ أخرى غير القراءة الشكلانية له. فالمتأمّل بهذه الأعمال يستمتع أيضاً بتلك التلميحات المضحكة التي يُرفقها الفنان بملاحظات وقحة وساخرة بواسطة تلاعبه بكلمات العناوين أو بتلك الموجودة داخل الأعمال نفسها. لكن واقع هذه التأويلات الحرّة يكمن في مكانٍ آخر: في سعي موروللي الثابت إلى ابتكار أنظمةٍ جديدة تسمح لمربعاته ومستطيلاته البيضاء وخطوطه المستقيمة أو الملتوية بالاستقرار داخل الفضاء المتعدد الأبعاد الذي يحاول استثماره. وداخل هذا الانتاج المتنوع والمرتكِز على مخيلة خصبة، تحتل تجهيزات موروللي مكانةً مهمة، فوفقاً للتعريف الذي يمنحه الفنان لها: «إنها كناية عن إسقاطاتٍ عابرة لعناصر خفيفة مرتبة بشكلٍ مختلف وفقاً لهندسة مكان العرض». زائلة إذاً في طبيعتها، لا شيء يمنع الفنان من إعادة إنتاجها، خصوصاً وأنها تتكون من أشرطة لاصقة وأنابيب ألومينيوم وهياكل مختلفة وصفائح معدنية ورسوم وملصقات... باختصار، عناصر عادية تشكل - مجموعةً - متاهةً شاسعة ولُعبية يمكن لزوار المعرض أن يستقروا في أرجائها للاستراحة والاستجمام أو لتذوق ألعابها الشكلية الغنية إلى ما لا نهاية. فارغة من أي رسالة واضحة أو محددة، تمنحنا هذه التجهيزات حضور واقعها المادي وفرصة استكشافٍ لا سابق له للعالم البصري، وإنْ في مبادئها أو في طريقة تنفيذها، تستحضر ممارسات فنانين مثل كريستو، وجوزف بويس، ووالتر دو ماريا، كما تقترب بجانبها الزائل من أفعال (happening) وأداءات روبرت روشنبرغ وجورج بريخت وبروس نيومان، وبالتالي تشكّل أجوبة مختلفة على حاجةٍ في التحرّك والتعبير داخل ظرفٍ محدد، حيث حصة المُشاهِد وضرورة الارتجال والميل إلى المجازفة والنزعة إلى الاحتفال هي معطيات جوهرية.