تجمع المصادر التاريخية على أنّ تأسيس مدينة بيروت يعود إلى (جرسي Gerse) المعروف بإسم (جريس Geris) ابن كنعان الخامس، أما إذا تتبعنا أقوال المصنفين الوثنيين فتكون (برودة beroe) زوجة (أوجيكس ogyges) هي التي سمتها (بيروتس beroutos) وهذه المدينة التي زاحمت في الأهمية صور وصيدون قد أتى على ذكرها (استرابون) و (بلين) و(بطليموس). يذكر الأب (بيسون Besson) أنّ أهل هذه المدينة كانوا من الطبقة البرجوازية وأنّ (هيرود) هو الذي قام بتجميلها ثم شيّد فيها الملك أغربيا الأروقة والمسارح والمدرّجات وبنايات عدة فخمة وأنها لذيذة بثمارها وجميلة بسهولها المستلقية على شاطئ البحر. في عهد الأباطرة الرومان أصبح اسم بيروت (فيليكس جولياfelix Julia) وغدت أكبر مدرسة للشرع، حتى أنّ (يوستنيانوس) أطلق عليها «أم الشرائع» ومرضعتها وقد أنجبت مجموعة القوانين والاجتهادات، كما برز فيها أشهر مشترعي ذلك العصر: (دوروتي Dorothe وأناتول Anatle) اللذان اشتغلا في تنسيقها، وكانت تلك القوانين نواة القوانين الحديثة. أما مؤلف رسائل فلسطين (أبيردي فتيري) فيقول إنّ لديه بيّنات كافية تعيد إنشاء هذه المدرسة إلى ما قبل حكم (ديوكلينانوس)، أي إلى حوالى القرن الثاني، وبعد انتظار ثلاثمئة سنة على ذلك، اكتسبت أهمية كبرى حتى أنّ أسقف بيروت الذي حضر المجمع الخلكيدوني نُصّب مطراناً عليها وأصبحت هذه المدينة كرسياً له. بدأت بيروت تكتسب أهميتها كمدينة تجارية منذ بداية القرن التاسع عشر، وقد أشار الكثير من الرحالة العرب والأجانب إلى مكانة بيروت على الصعيدين الثقافي والاقتصادي، فحتى عام 1886م كانت بيروت جزءاً من ولاية سورية، إلى أن صدر عن الدولة العثمانية فرمان يجعلها ولاية عام 1887م بقسميها الشمالي والجنوبي، وذلك نظراً للأهمية التي بدأت بيروت تحتلها بين سائر مدن الشام. ففي كتابه «نفحة البشام في رحلة الشام» عام 1313 ه يذكر الشيخ عبدالجواد القاياتي أنّ بيروت شهدت تأسيس الكثير من المدارس الجديدة على النمط المديني، وهي قد سبقت مصر في هذا المجال، كما سرّه انتشار ظاهرة الرخاء عند تجار بيروت والذي انعكس على عمران المدينة فظهرت عمائرها الجديدة المبنية على الأسلوب الحديث بجانب مبانيها القديمة الواقعة داخل سورها. ويذكر الأمير محمد علي باشا في كتابه «الرحلة الشامية» أنّ بيروت هي من المراسي الشهيرة والمدن التجارية الكبيرة وهي من أشهر وأهم مدن سورية التجارية وفيها أكبر ميناء في بلاد الشام ومركزها الطبيعي غاية في الجمال، وأما تجارتها فتدور في الغالب على مزروعاتها ومصنوعاتها التي أكثرها من الحرير وزيت الزيتون والصابون. وقد تميّزت بيروت أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين بحركة تجارية صناعية نشيطة، يشهد على ذلك وجود بعض المعامل للمصنوعات الخشبية، مما يشير إلى سرعة التحول الذي بدأت تسير فيه هذه المدينة وذلك نتيجة الانفتاح الذي شهدته من جراء توافد ونشاط البعثات الأجنبية وفتح قنصليات لها. ونشطت حركة التبادل التجاري بينها وبين بعض البلدان الأوروبية، مما شجّع سكان بيروت على تأسيس المصانع واستخدام الأيدي العاملة المحلية في عملية التصنيع، كما انتعش ميناؤها البحري بفعل حركة الاستيراد والتصدير التي جعلت من بيروت في مقدم المدن السورية على الصعيدين التجاري والصناعي. أما الأب لويس لورتيه الذي نظّم رحلتين إلى لبنان وسورية وفلسطين الأولى في عام 1875م والثانية في عام 1880م فيرى أنّ بيروت مثّلت دوراً عظيماً في يقظة الشرق وأنّ هيئتها اليوم تختلف عما كانت عليه منذ سنوات، فقد أنشئ فيها حي جميل وسط البساتين، كما شيدت فيها بنايات كبيرة على الروابي المحيطة، شيّدتها الإرساليات الأجنبية. أما شوارعها فكلها جديدة مرشوشة واسعة مفروشة بالحصى وبيوتها تكاد تكون كلها مبنية على نسق واحد. ويسجّل (لورتيه) وجود عربات ذات مقاعد وعجلات خفيفة ودواليب أربعة مكشوفة نظيفة في الضواحي الجديدة للمدينة، وأما مقاهي بيروت فهي كثيرة مفتوحة بسعة على الشوارع كمقاهي الأستانة. ويتوقف (لورتيه) عند ظاهرة انتشار الأزياء الأوروبية التي يأسف لرواجها ويعتبرها من نكد الحظ الذي سيؤثر في الأزياء الوطنية. أما الرحّالة (جون كارن) فيشير في كتابه «رحلة إلى لبنان» في الثلث الأول من القرن التاسع عشر إلى أنّ بيروت قد تحسنت ولا تزال آخذة في التحسن على اضطراد، تشهد على ذلك المساكن والمباني الجديدة التي تبنى بكثرة، كما أنّ لها أفضلية أخرى على سائر المدن في سورية، وهذه الأفضلية تقوم على حرية العبادات الدينية، ففيها يتلاقى رجال مثقفون قدموا من الأديرة التي في الجبال، بينهم الأساقفة والكهنة واللاهوتيون من موارنة وأرثوذكس وكاثوليك. ويشير (كارن) إلى ازدياد النشاط التجاري فيها، كما يعتبر ميناءها أفضل الموانئ، فهو يشهد بوادر حركة جديدة أغرت بعض أصحاب المناسج في أوروبا لإنشاء الأعمال والمقاهي فيها. أما (هنري غيز) فيشير في كتابه «بيروت ولبنان منذ قرن ونصف قرن» إلى أنّها اكتسبت عن جدارة شهرة تجارية في الخارج، إذ هي من أكثر المدن السورية إنتاجاً للمنتوجات الصالحة للأعمال التجارية. ويتوقف (إدوارد روبنسون) في كتابه «يوميات في لبنان» عند التطور الذي أصاب بيروت، فيذكر أنها قد اكتسبت خلال القرن التاسع عشر حافزاً جديداً، إذ أصبحت محور التجارة الأوروبية كما أصبحت ميناء دمشق، كما اختيرت بيروت مركزاً للإرسالية الأميركية في سورية نظراً لسهولة المواصلات مع داخلية البلاد وغيرها من الأنحاء. ومنذ زيارته بيروت عام 1838، يورد (روبنسون) أنّ المدينة لم تفقد شيئاً من رونقها، بل تقدمت كثيراً على رغم تعرضها لمدافع الأسطولين البريطاني والنمسوي في العاشر والحادي عشر من أيلول (سبتمبر) عام 1840 وتهدم الكثير من بيوتها وسقوط الكثير من الضحايا، فإن الخراب الذي حلّ بها لم يلبث أن أصلح ولم يبق من آثار هذا التعدي سوى ما تركته القنابل في جدران القلعة القديمة على المرفأ، كما امتدت الشوارع الجديدة فيها إلى الضواحي من الجهة الجنوبية الشرقية المسوّرة وملأت المساكن الحدائق وبساتين التوت الواقعة على التلال في الجنوب والجنوب الشرقي. وتبدو مدينة بيروت أكثر إشراقاً من خلال ما كتبه (عبدالرحمن بك سامي) الذي زارها عام 1890 وسجّل ملاحظات مهمة حول جمال بيروت وطابعها الأوروبي، فهي الآن مدينة العلم والطب، ويعرف علو منزلتها من كثرة مدارسها وقيمة أعمالها الخيرية من مستشفياتها وهيئاتها الاجتماعية ومن جمعياتها وعظم فوائدها من جرائدها ومطبوعاتها. وفي الجملة، فإن بيروت غصت بالمدارس المفيدة للذكور والإناث، وأشهر مدارس البنات مدرسة الناصرة ومدرسة اللعازارية والمدرسة البروسية والمدرسة الأميركية والمدرسة الإنكليزية. أما المستشرق الروسي الشهير (كريمسكي) فقد تضمّنت رسائله حقائق عن الحياة الاقتصادية والاجتماعية في بيروت التي كانت تملك المرفأ العصري الوحيد على الشاطئ الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، ففي تلك الحقبة كانت بيروت تشهد نهوضاً اقتصادياً عاصفاً بخاصة في حقل التجارة، فكل سكان بيروت تقريباً، وكان عددهم آنذاك يقارب المئة ألف نسمة، كانوا يتعاطون التجارة في أشكال مختلفة. وبنى أغنياء بيروت لأنفسهم الفيلات الفخمة التي غيّرت الوجه المعماري للمدينة وأصبح الأغنياء الجدد أعيان بيروت وليس أصحاب الأراضي والملاكون الكبار كما كان في السابق. وتعقد بيروت صفقات تجارية ضخمة مع الخارج ويتدفق عليها رأس المال الأوروبي الذي بدأ يغزو الأسواق منذ ثلاثينات القرن التاسع عشر، وتنشط أعمال بناء المرفأ البحري والطرق المعبّدة والسكك الحديد. لذلك يمكن اعتبار هذه الرسائل مادة غنية جداً لمختلف جوانب الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لسكان بيروت. فحول وثائق التاريخ الاقتصادي تتضمن الرسائل إشارات كثيرة تصف أجور البريد وانتظام العمل فيه داخل بيروت وفي جبل لبنان، كما تتضمن أجور النقل بالعربات الخاصة والتاكسي والقطار والبواخر وأجور فنادق بيروت والغرف المفروشة ونفقات المدارس وأسعار الطعام والسلع الاستهلاكية الأساسية كالقمح والحبوب الأخرى والخبز العادي والخبز المرقوق في الجبل وأسعار الحلوى والعسل والشاي والنبيذ والعنب والبلح وأكواز الصنوبر واللوز والدراق والليمون والتفاح والزعرور والخوخ والتوت وقصب السكر والتين والخروب والمشمش والكرز والقشطة. كذلك يصف أسعار العملات الأجنبية على الساحة البيروتية وإقبال الناس على العملات الذهبية والفضية أكثر من إقبالهم على العملات الورقية... وحول وثائق التاريخ الاجتماعي تسجل الرسائل نماذج حيّة من اللوحات الاجتماعية المعاشة في بيروت فأعطت نماذج من أوضاع الطبقة الفقيرة في بيروت ومقدار مداخيلها مع اعتمادها على أموال المغتربين وعلاقة الأهل بالأولاد وأنواع المآكل التي يتناولها الفقراء والمصاريف الشهرية التي تنفقها عائلة متوسطة الدخل أو الفقيرة المعدمة، كما قدّمت نماذج كثيرة من الأعياد والحفلات الدينية، فوصف أحد الشعانين وعيد الفطر وتقاليد الصيام في رمضان وعيد البربارة. كما قدمت ملاحظات مهمة حول ألعاب السيف والترس وأنواع اللباس السائد وعملية الانتقال من اللباس القديم واللباس التركي إلى اللباس الأوروبي الحديث، كما قدمت رسائله لوحات رائعة حول الموسيقى القروية والرقصات الفولكلورية الشعبية وأنواع المآكل والحلويات التي تستخدم في مناسبات خاصة كالأفراح والمآتم والأعياد الدينية وغيرها. كما تناولت جوانب أساسية من العلاقات الاجتماعية كالقرابة وتربية الأولاد وانخراط المرأة في العلم والعمل وكيفية تزويج الفتاة. تلك هي صورة المدينة التي شغلت الكتاب والنقاد والرحالة في تاريخها الموغل في القدم... لتبقى بيروت عبر تاريخها حاضنة لائتلاف ديموغرافي متنوع جمع أطيافاً متعددة من النسيج اللبناني المتعدد الطوائف والمذاهب لم تعكر صفو معيشته وانسجام شرائحه الاجتماعية الأعاصير السياسية التي مرت على المدينة وكانت استثناء بدليل حالة الاستنهاض العمراني والثقافي التي شهدتها المدينة بعد ما تعرضت له في سبعينات القرن الماضي وثمانيناته من تدمير أصاب شوارعها وأبنيتها لتعود مجدداً عاصمة الفكر والثقافة والشرائع. تلك هي بيروت أيام زمان في صورة وثائق التاريخ الاقتصادي والثقافي والعمراني. فهل إن بيروت في بداية الألفية الثالثة تعكس ذلك الحضور التاريخي المهم من خلال ما تنوء به اليوم؟