تنفرد ثورة «المحروسة» بطابعها اللاعنفي وحيويتها، وتظاهراتها المليونية، واعتمادها على أدوات مجتمع المعرفة في بلد لم ينجز الحداثة أو التحول الرأسمالي، وبقدر تفرد ثورة مصر بقدر تعايشها مع مفارقات وتناقضات غريبة، فالثورة حتى هذه اللحظة لم تصل إلى السلطة، ولم تمتلك تنظيماً سياسياً أو تلتف حول قيادة متفق عليها أو زعيم يعبر عنها، في الوقت الذي يمتلك أعداء الثورة مفاصل الاقتصاد، وحزباً سياسياً، وكثيراً من مقومات الدولة، فضلاً عن قيادات ورموز لديها رصيد هائل من الخبرات والموارد السياسية. قوة معسكر الثورة المضادة وتحركاته النشطة لم تؤثر في بريق ثورة «المحروسة» وقوة اندفاعها، وقدرتها على الحلم وثقتها في النصر. كما لم يضعف من رأسمالها الرمزي والتأييد غير المسبوق الذي تحظى به بين الجماهير داخل مصر وخارجها. فالثورة المصرية صارت نموذجاً ملهماً لشعوب العالم. لكن وكما يعلمنا تاريخ الثورات تهدد الثورة مجموعة من المخاطر والتحديات تحتاج من كل الأطراف بمن فيهم شباب الثورة إلى خيال وأنماط جديدة من التفكير الثوري، وأساليب مبتكرة من التفاوض السياسي والاجتماعي عوض اعتماد الأطر والنماذج الفكرية القديمة، فمطاردة الفساد واستعادة أموال الشعب لن تنجح بالاعتماد على القوانين القائمة والنظم القديمة، خصوصاً أنها هي نفسها التي اعتمد عليها السارقون واستخدموها في ارتكاب جرائمهم، ولعل أهم هذه التحديات والمخاطر: 1- صعوبة الحفاظ على الحالة الثورية التي أطاحت رؤوس النظام ولم تتمكن حتى الآن من إسقاط وتغيير النظام، فالقدرة على حشد الملايين في القاهرة والمدن الكبرى وراء مطالب محددة صارت مهددة بظهور اختلافات وصراعات كثيرة ومتنوعة داخل معسكر الثورة بين فريقين: الأول يدعو إلى استمرار الثورة حتى إسقاط مؤسسات ورموز النظام السابق، ولا يثق بالمطلق في قدرة الجيش على إدارة المرحلة الانتقالية، ولا في قدرات وزارة شفيق التي يعتبرونها امتداداً طبيعياً لنظام مبارك وسياساته، بخاصة أنها تضم أسماء ورموزاً متهمة بالإساءة للثورة. أما الفريق الثاني فيدعو إلى التمهل وإعطاء الجيش ووزارة شفيق فرصة لإتمام المرحلة الانتقالية، ويمنح الجيش ثقة مطلقة في قدراته على إدارة المرحلة الانتقالية وبما يضمن التحول الديموقراطي. هذا الخلاف يعبر في الحقيقة عن تضارب وتنافس طيف واسع من المجموعات الشبابية والأحزاب و «الإخوان» والشخصيات العامة – وبعضهم من الانتهازيين ومن فلول النظام السابق المتلونين – على تقييم المرحلة وأهداف الثورة وشكل النظام القادم وسياساته الاجتماعية والخارجية، ومن يمثل الثورة في التفاوض مع الجيش والحكومة. ومن دون دخول في تفاصيل هذه الخلافات وأسبابها الأيديولوجية والسياسية، بل والشخصية أحياناً، فإن تأثيرها بالغ الخطورة على قدرة الثورة على حشد وإشراك الجماهير في تظاهرات مليونية هي من وجهة نظري السلاح الوحيد الفعال لثورة «المحروسة» في مواجهة معسكر الثورة المضادة من ناحية، وفي موازنة قوة الجيش المهيمن على السلطة والقرار من ناحية ثانية. 2- عدم امتلاك الجيش لرؤية تفصيلية واضحة عن المرحلة الانتقالية وطبيعتها، والمخاطر التي تهددها، فالجيش الذي لعب دوراً بالغ الأهمية في الحفاظ على الدولة المصرية وحماية الثورة وحفظ الأمن وإدارة شؤون البلاد، لم يكن مستعداً أو مدرباً للقيام بهذه الأدوار، كما لم يكن راغباً في الاستمرار في الحكم. لذلك سارع بتحديد الفترة الانتقالية بستة أشهر – في الأغلب لن تكون كافية – أو حتى إجراء انتخابات مجلس الشعب والشورى وانتخابات الرئيس، مع إجراء تعديلات دستورية محدودة تتعلق بانتخاب الرئيس وفرض حالة الطوارئ وإقرار الإشراف القضائي الكامل على الانتخابات. ويلاحظ أن الجيش الممسك بالسلطة عندما وضع هذه المهام لنفسه لم يستشر قوى الثورة أو يدعُها للمشاركة الفعلية في إدارة المرحلة الانتقالية، كما لم يوافق على مطالب الثورة بإلغاء حالة الطوارئ وإطلاق حرية تكوين الأحزاب والنقابات وتشكيل مجلس رئاسي وحكومة تكنوقراط تدير المرحلة الانتقالية. صحيح أن الجيش أجرى حوارات مع كثير من الأطراف والفاعليات السياسية، لكنها لم تتخذ طابعاً مؤسسياً. الجيش الذي يتوق للعودة إلى ثكناته افتقر إلى الخيال السياسي، ولم يفكر جيداً في تفاصيل المرحلة الانتقالية وتعقيداتها، وتربص قوى الثورة المضادة وتآمرها على ملاحقة الفساد والتحول نحو الديموقراطية. وربما لم يدرك الجيش أهمية المرحلة الانتقالية والتي ستطور الثقة بين الجيش والثورة، وتشجع على استعادة الجماهير إلى فضاء السياسة والمجال العام، ومن ثم تضمن انتقالاً حقيقياً وشاملاً الى دولة مدنية ديموقراطية في المستقبل. واعتقد أن عدم إدراك هذه الحقائق أدى إلى: أولاً: إسناد قيادة المرحلة الانتقالية إلى وزراء ومحافظين وقيادات محلية وإعلامية تنتمي الى نظام مبارك وتعمل وفق أفكاره وأساليبه القديمة، بل إن بعضها وبحكم شبكات المصالح يعمل ضمن جهود الثورة المضادة. ثانياً: استمرار قوى الثورة المضادة في التحرك من دون قيود وباستخدام المال في لملمة صفوفها واستيعاب صدمة الثورة ومحاولات الالتفاف عليها، فضلاً عن رفض بعض القيادات ورجال الأعمال المنتمين للحزب «الوطني» المطالب المشروعة للعمال والموظفين، مما يؤجج الإضرابات والتظاهرات ويربك الحالة الأمنية التي يتولاها الجيش في ظل عدم قدرة الشرطة على استعادة دورها ومكانتها. ثالثاً: اتهام بعض قوى الثورة للجيش بأنه جزء من نظام مبارك ويرتبط بشبكة المصالح القديمة وبالتالي فإنه لا يرغب في انتقال ديموقراطي حقيقي، بل إن بعض الاتهامات تحدث عن رغبة بعض قيادات الجيش في الاستمرار في الحكم في شكل مباشر، أو عبر انقلاب عسكري، أو من خلال ترشيح شخصية مدنية من خلفية عسكرية لمنصب الرئيس. 3- على رغم أهمية التعديلات التي طاولت ثماني مواد من الدستور وقصرت فترة الرئاسة على أربع سنوات بدلاً من ست ويجوز تجديدها لفترة واحدة فقط، إلا أنها لم تتعرض للسلطات الواسعة لرئيس الجمهورية والتي تنتشر في جسد الدستور المصري وتجعله واحداً من أكثر دساتير العالم سخاء في توسيع سلطات الرئيس. حيث يرى الجيش أن مهمة وضع دستور جديد ستكون من بين مهام البرلمان والرئيس المنتخب. وهنا تبرز مخاطر وتهديدات عدة: الأول: إن عدم المساس بسلطات الرئيس قد يشجع الرئيس المنتخب بعد خمسة أشهر من الآن على عدم تعديل هذه المواد أو تعديل بعضها فقط والاستفادة منها. لا أستبعد هذا الاحتمال في ظل استمرار ثقافة الاستبداد والنفاق السياسي والتي لن تختفي سريعاً. ثاني التهديدات هو اشتراط أن يكون عمر المرشح للرئاسة أربعين سنة يحرم شباب الثورة من خوض معركة الرئاسة، بل يحرم 69 في المئة من الشعب المصري من هذا الحق. وكان من الأجدى خفض السن إلى 30 أو 35 سنة. التهديد الثالث: إن عدم إلغاء قانون الطوارئ والإفراج عن المعتقلين السياسيين والإعلان عن حق تكوين الأحزاب والنقابات وإصدار الصحف يؤخر عملية تجديد دماء الحياة السياسية التي شلت وجفت مياهها في عصر مبارك، حيث لن تتاح لقوى شباب ثورة 25 يناير وغيرها من القوى السياسية القديمة فترة زمنية كافية تمكنها من تشكيل أحزابها وإعلان برامجها والتحرك بين الناس. مما يعني استمرار حالة الجفاف السياسي والحزبي، وانفراد الحزب «الوطني» الذي يرتبط بمصالح رجال الأعمال والأسر الكبيرة في الريف، وجماعة «الإخوان المسلمين» بالمجال العام والساحة السياسية، فهما أكثر القوى السياسية تنظيماً وأوفرها تمويلاً، مما يضمن فوزهما بالنصيب الأكبر من مقاعد مجلسي الشعب والشورى وربما الرئيس القادم. ولعل المفارقة التالية تكشف عما أقصد، فكثير من القوى والفاعليات السياسية الديموقراطية تطالب بتمديد الفترة الانتقالية وتجديد آلياتها وتعديل مسارها لتوفير مناخ وإطار زمني ملائم لتجديد الحياة السياسية، بينما جماعة «الإخوان المسلمين» ترفض وتتعجب كيف تتطلب قوى ديموقراطية بإطالة أمد إمساك الجيش بالسلطة! 4- مخاطر تعدد الروئ وتصادمها في معسكر ثوار 25 يناير يقابله غياب الرؤية عن الجيش وتقابله من الخارج مخاطر الضغوط الخارجية وتحديداً الأميركية والإسرائيلية، وتأثيرها المتعاظم في تطور الأحداث بمصر، فنظام مبارك قلص من قدرات الدولة المصرية على مقاومة الضغوط الخارجية، وسمح لها بممارسة أدوار متعاظمة في التأثير على التطور الداخلي والسياسة الخارجية. ومن الصعب تصور أن مصر قادرة على التخلص سريعاً من هذا الإرث الثقيل، وبالتالي من الضروري وضعه ضمن حسابات الثورة المصرية، ومن الضروري أيضاً أن يدرك الجيش والثوار أن هناك قيوداً ومخاطر متعددة على عملية التحول الديموقراطي من وجهة النظر الأميركية والإسرائيلية. وأنا شخصياً أعتقد أن كلاً منهما لا يرحب كثيراً بنظام ديموقراطي حقيقي في مصر، لا يستبعد اليسار وقوى الإسلام السياسي، ويستطيع أن ينهض بمصر اقتصادياً واجتماعياً وعلى قاعدة العدالة الاجتماعية والتقدم العلمي ولعب دور نشط في الدوائر العربية والأفريقية والإسلامية. مجمل المخاطر التي تهدد ثورة «المحروسة» تجعل من الصعب تماماً ومن غير المنطقي أن تقود المرحلة الانتقالية نفس نخبة نظام مبارك والتي تفكر وتعمل بطرق بالية أسقطتها ثورة 25 يناير، لذلك بدا نوع من الاستقطاب والتوتر في المشهد العام في مصر بين نخبة تمسك الحكم وتعمل ببطء وبأساليب وأفكار قديمة لا تنتمي للثورة، لكنها تحتفي بالثورة والشهداء وترى في الوقت ذاته – عبر إصدار بيانات – أن الثورة قد انتهت وحققت أهدافها، وبالتالي تدعو الشعب إلى عدم التظاهر والابتعاد عن السياسة، حتى تتاح الفرصة للعمل من أجل الإصلاح والحفاظ على الأمن والاستقرار وعودة عجلة الإنتاج. في المقابل هناك جماهير ثائرة ترى أن الثورة لم تكتمل، وتطالب بالتغيير السريع وبحقوقها كاملة في الثروة والسلطة وعبر العمل السياسي والنقابي الحر والمستقل في دولة ديموقراطية مدنية. * كاتب وجامعي مصري