حيال الثورات والانتفاضات، وجد البعض شبَهاً لافتاً بثورات أوروبا الوسطى والشرقيّة أواخر الثمانينات وأوائل التسعينات. لكنّ بعض هذا البعض مضى مؤكّداً على انبعاث العروبة وقوميّتها من شوارع تونس والقاهرة وطرابلس وصنعاء والمنامة وسواها. وفات هؤلاء أنّ الروس والألمان الشرقيّين والبلغار والهنغاريّين والبولنديّين والرومانيّين والتشيكوسلوفاكيّين، ممّن تتابعت ثوراتهم بإيقاع زمنيّ متسارع، ليسوا أمّة واحدة ولا قوميّة واحدة. وكان الأدقّ لمن يريد التوكيد على العروبة، أن يكتفي بالتشبيه بجدار برلين الذي فصل فعلاً بين شطري أمّة واحدة. لكنّ الجمع بين الدقّة والتواضع مهمّة صعبة. كذلك فما قيل في ثورات المعسكر الاشتراكيّ يمكن قوله، لهذه الناحية، في ثورات 1848 الأوروبيّة، التي غدت نموذجاً كلاسيكيّاً في الترابط والتداعي. فهذه التي انفجرت في فرنسا وامتدّت إلى الإمارات الألمانيّة والإيطاليّة، والى بلدان نائية نسبيّاً كبولندا شرقاً والدانمرك شمالاً، لم تكن هي الأخرى دليلاً على أيّة وحدة قوميّة بين أمم وقوميّات شتّى. ألم يكن أبرز أوصافها «ربيع الأمم»؟. واقع الحال أنّ الثورات المتلاحقة غالباً ما تعبّر عن رغبة «وطنيّة» في إضعاف الروابط بين الأنظمة والجماعات كما أنشأها النظام السابق ضدّاً على الرغبات الوطنيّة للشعوب. فلئن جمع بين الثورات على الشيوعيّة الاستياء من النظام نفسه، فإنّ انتصارها كان انتصاراً على الروابط القائمة كحلف وارسو والكومنترن والكوميكون والتسليم بقيادة الاتّحاد السوفياتيّ. وهذا، بالطبع، لا يلغي درجة معتبرة من الاشتراك العربيّ تنشئها اللغة والدين وشطر من التاريخ، فضلاً عن التعميم التلفزيونيّ، فتضيفها إلى تشابه الأنظمة. بيد أنّ هذا شيء والقوميّة العربيّة الطيّبة الذكر شيء آخر مختلف تماماً. فكيف وأنّ الذين يقودون الثورات والانتفاضات لا ترد تلك القوميّة على ألسنتهم من بعيد أو قريب، فيما هم لا يكفّون عن توكيد برامج وشعارات وطنيّة (يسمّيها القوميّون «قطريّة» بامتهان يخالطه الامتعاض). وكيف وأنّ التفاوت الذي تتكشّف عنه الأوضاع العربيّة، وهو ما تجلوه الثورات والانتفاضات، يفقأ العين متى شاءت العين أن ترى!؟. ثمّ هل تستقيم هذه القوميّة العربيّة مع كلّ الضوضاء في ما خصّ النموذج التركيّ واعتناقه، وكيف نتدبّر الأمر إذا ما انضمّ الإيرانيّون (غير العرب في ما نعلم) إلى الموجة المتعاظمة... وأسر الموسوي وكرّوبي في «أمكنة آمنة» لا يحمل على استبعاد احتمال كهذا؟. أغلب الظنّ أنّ هذه المسارعة إلى إعلان قيامة القوميّة العربيّة من بين الأموات تنمّ عن رغبة عميقة في مصادرة الثورات والانتفاضات بحيث تُقوَّل ما لم تقله، علّها تُجرّ بطلاقة الألسنة إلى سياسات لا تبغي اتّباعها. إلاّ أنّ وجه الخطورة في هذا الزعم وشايته بالبطن الخصب، أقلّه لدى المشارقة العرب الآسيويّين، لإنكار الدولة – الأمّة الوطنيّة وإملاءاتها. وهنا، لا تزال التجربة الرائدة والباعثة على الرعب، تأييد صدّام حسين عند غزوه الكويت قبل عقدين ونيّف. ذاك أنّ كلّ الكلام الذي سبقه عن احترام الدول والحدود والإرادات وحقّ تقرير المصير تبخّر واضمحلّ في مجرّد قيام الديكتاتور العراقيّ ب»إرجاع الفرع إلى الأصل». هكذا نزلت «الجماهير» إلى الشوارع، وعلى رأسها مثقّفون وقادة رأي، ينتصرون كلّهم للمستبدّ العراقيّ ويحتفلون ب»الأمّة الواحدة». والرهان اليوم هو أن يكون العقدان الفاصلان قد فعلا فعلهما الإيجابيّ، وهذا، على الأقلّ، ما تنمّ عنه جرعة العقلانيّة المقيمة في الثورات والانتفاضات الراهنة، والتي تركّز على الهموم الوطنيّة لمجتمعاتها. فإذا صحّ التقدير هذا جاز القول إنّ الساعين إلى مصادرة تلك الثورات والانتفاضات، وإلى تمثيلها رغماً عنها، يتقلّصون وينكمشون، بينما يتّسع الإفلاس والإحباط وحدهما. وليس سرّاً أنّ العامل الفلسطينيّ هو دائماً السبب الأبرز وراء هذين الخلط والاختلاط. ذاك أنّ الحكمة السقيمة تقول: تعالوا يدخل واحدنا في الثاني من أجل أن نقاتل إسرائيل. لكنّ التجارب تعلّمنا أنّ واحدنا متى دخل في الآخر، بقي داخلاً فيه ونسي إسرائيل. أمّا التذكّر الأعقل ل»قضيّة العرب المركزيّة» فلا يبدأ إلاّ ببناء دول محترمة تُحمل على محمل الجدّ وتنهض على وطنيّات صلبة، ومن موقعها هذا، تستطيع أن تضغط لوقف التمادي والعنجهيّة الإسرائيليّين والوصول إلى دولة فلسطينيّة. غير ذلك عبء على الفلسطينيّين ومساهمة في إنتاج فلسطينات كثيرة.