كثيراً ما تُحدث الثورات تغيراتٍ كبرى في شخصية الشعوب. وتختلف هذه التغيرات بحسب الأحداث التي تمر بها الثورة، فقد تزيد اللحمةَ الوطنية في هذه الشعوب، وقد تجعلها أكثر عنفاً ورفضاً للآخر. وفي معظم الأحوال، تخلق الثورة أملاً في أن يحقق المستقبل الأهداف التي ثار الناس وضحُّوا من أجلها. ماذا فعلت ثورة 25 يناير بالشخصية المصرية؟ هذا ما يعكف كثير من علماء الطب النفسي حاضراً على رصده. قانون الطوارئ في لقاء مع «الحياة»، أعطى الرئيس السابق للاتحاد العالمي للطب النفسي الدكتور أحمد عكاشة، نظرةً تعكس خبرته الطويلة في الأوضاع المصرية. وقال: « أحدثَتْ ثورةُ الشباب الشريفة الناجحة تغييراً جوهرياً في الشخصية المصرية. الأرجح أن النظرة السابقة عن المصريين اعتمدت على عهد الاستعمار، سواء أكان فرنسياً أم تركياً أم إنكليزياً، أم عهد «الاستحمار» منذ ثورة 23 يوليو/ تموز 1952. جاءت الثورة الناصرية بنظام حكم شمولي ظل يروِّج لمقولة أن الإنسان المصري خَنوع، لا يهتم إلا بالنكتة، فضلاً عن أنه غير جاد في عمله، ويميل إلى الفهلوة أكثر من الإتقان. تعكس هذه النظرة أخلاقَ العبيد، وتتوافق مع القمع والقهر وقانون الطوارئ وعدم المبالاة بآدمية الإنسان، وأدّى ذلك إلى تقوقع الفرد المصري حول ذاته بطريقة مؤذية، وهذا شيء خطير. علينا أيضاً ألا ننسى أن الشخصية المصرية تحمل في طيّاتها آثار العلاقة مع حكومة يزيد عمرها على ستة آلاف سنة. حُكمت مصر قديماً من فراعنة استطاعوا توحيد الشمال والجنوب. تحمل الحضارة المصرية أخلاقيات راسخة، ولكنها كانت مكبوتة ومحبطة. لم أرَ في حياتي، ولا في تاريخ البشرية، ثورةً تغيِّر الأخلاقَ خلال أسبوعين. لقد اعتمدت ثورة 25 يناير على التكنولوجيا. هناك 1.5 مليون مصري يتعاملون مع الإنترنت، إضافة إلى 6 ملايين يتعاملون مع الكومبيوتر. لقد تنبأْتُ بحدوث الثورة قبل قرابة السنة، وأعربت حينها عن اعتقادي بأن شباب الإنترنت، بما لديهم من وعي، لن يتركوا الشيوخ يحكمونهم. هذه الروح أعتقد أنها تشمل الشباب عالمياً. وإذ لا يستطيع الشيوخ استيعاب علوم الكومبيوتر وحملات الفايسبوك، فلن يستطيعوا حكم هؤلاء الشباب والتجاوب مع تطلعاتهم». واستطرد عكاشة قائلاً: «الشباب المصري تحمَّل مسؤولية تغيير مصر، وضحّى بما يقرب من 400 شهيد، ولم يتنازل عن مطالبه، وثار بقدر عال من الإتقان والسلمية والصدقية، وأهم من هذا روح التعاون، فقد رأيت الغني والفقير، والصغير والكبير أمام البنايات وعند مداخل الشوارع، يقفون لحماية ذويهم وممتلكاتهم. أؤكد أن مَن سرق المحلات لم يكونوا من سكان المناطق الشعبية، ولا حتى سكان العشوائيات. جاءت السرقة من خارجين عن القانون يتبعون الحزب الوطني الحاكم سابقاً. أراد هؤلاء إفشال الثورة وإحداث فوضى وانفلات أمني في الشارع، ولكن المصري الحقيقي كان يحرس ممتلكات الغير، وهذا بعكس ما حدث في نيويورك ولوس انجليس، اللتين لم يتورع سكانهما في سنوات سابقة عن سرقة المحلات عند انقطاع الكهرباء». ورأى عكاشة أن هذا المشهد المصري ينطوي على تجاوز للذات، وبهذا يكون الإنسان المصري جمع خلال هذه الثورة أهم خمس صفات تميز الشخص الإيجابي والمتوازن، وهي: الصدقية والمسؤولية والإتقان والتعاون مع الآخرين وتجاوز الذات. واستطرد قائلاًَ: «جعلَنا هؤلاء الشبابُ نُفيق من سبات طويل. لم أرَ ثورة أخرى مثل ثورة 25 يناير، يقوم الناس فيها بتنظيف الشوارع عقب الثورة. وأثار هذا إعجاب كثير من زعماء العالم، فقد قال الرئيس الأميركي باراك أوباما إن تلك الثورة ألهمت الأميركيين. وأتوقف عند أن هذه الثورة أعادت البسمة إلى وجوه المصريين، وأقول إنه حَدَثَ قبولٌ للآخر. وإذا كان هناك من يشير إلى وجود بعض الفوضى، فإني أرى فيها الفوضى الخلاّقة التي تعقب الثورات، وغالباً ما تكون هذه الفوضى بداية البناء، وبعدها يأتي الاستقرار. ونستطيع من خلال استرداد الأموال الطائلة المنهوبة، إعادة بناء المجتمع ورفع مستوى الطبقات الفقيرة. وأنا متفائل، خصوصاً أن موقف الجيش المصري مشرِّف ومتضامن مع حقوق المواطن». وأخيراً، لاحظ عكاشة أن تغيير الأخلاق السلبية في المجتمع يتعمّق إذا تجاوب المسؤولون مع رغبات الشباب في التغيير التام وإحداثِ إصلاح في كل شيء. أتوقع أن يستغرق هذا من 6 شهور حتى ثلاث سنوات. ومع العولمة، أعتقد أنه خلال 15 سنة على الأكثر لن يبقى أي نظام قمعي وديكتاتوري في الحكم. الحق أن الشباب المتعلّم لن يرضى بالخنوع، وسيحمل دائماً مشاعل التغيير». في السياق عينه، رأت أستاذة الطب النفسي في جامعة عين شمس الدكتورة هبة العيسوي، أن أحد أهم إنجازات هذه الثورة هو تعديل الميزان النفسي للشخصية المصرية ، ونقْلها من مرحلة الجمود والتحجّر إلى مرحلة الحِراك وإثبات الذات. وقالت: «صنعت هذه الثورة حراكاً نفسياً. لنتذكرْ أن هناك صفات ثابتة وأخرى متغيِّرة. تتمثّل الصفات الثابتة للشخصية المصرية بالطيبة والمسالَمة والبُعد من التغيير. الأرجح أن المصريين نمطيون، يرتبطون بالأشياء، ويميلون إلى المرح، وتحكمهم عواطفهم في كثير من الأحيان، كما يتميزون بأنهم يُضْفون صِبغةً عاطفية على الحدث». وأكّدت أن نظام الحكم السابق «نجح» في التسبّب بانهيار في الشخصية المصرية، مؤكّدة أنها رصدته في ظواهر سلبية، مثل التحرش الجنسي والسمنة المفرطة والانسياق خلف الغرائز. وأضافت: «عَمِلَ هذا النظام على ربط إحياء ال «أنا» مع تحرّك الغرائز، كما جعل كل إنسان لا يهتم بسوى نفسه والبحث عن لقمة عيشه، وولَّد لديه خوفاً شديداً من فقدان مصدر الرزق، وظهر ذلك في شيوع الاستعداد لتحمّل الاستكانة والشعور بالمهانة وقبول التسلّط. ويُطلَق على هذه الحالة في الطب النفسي مصطلح «التمركز حول الذات». يرافق هذا «التمركز» عدم الاهتمام بالآخر، وشعور بالانكسار، ومحاولة إسقاط أسباب المشاكل على الآخرين، وإغفال محاسبة الذات. وتعتبر هذه الحالة انتقاصاً من إنسانية البشر، لأنها لا تكتمل إلا عند القدرة على الاختيار، مع التمتّع بالحرية في التنديد بالخطأ والتمسّك بالصواب». وأضاف العيسوي: «لقد نجح النظام السابق في أن يمارس علينا القهر، وسَلَبَنا القدرة على الفعل. هذا ما كان، ثم حدث تحوّل في المجتمع. بدأ الأمر بمحاولة الشباب التنفيس عما يشعرون به من كبت من خلال التحدث على موقع «فايسبوك». أعتقد أن هذه الثورة نجحت في إخراج الشخصية المصرية من التشظي فردياً إلى التكوين الجماعي. وبعد أن وضع الشباب الهدف، بدأ التعضيد الجماعي، وبدأنا نأخذ القوة للتحرك. وأجدني استخدم ضمير المتكلم لأني ذهبت إلى ميدان التحرير، وعشت أيام الثورة بعد بدايتها ببضعة أيام، ووجدت أن ميدان التحرير اتسع لكل من شعر يوماً بالمهانة، أو تعرَّضَ للظلم، وحتى من لم يتعرض لأي ظلم أو ذل أو مهانة، ذهب الى ميدان التحرير لتحقيق الحرية والديموقراطية والعدالة في العلاقات بين البشر. الأرجح أن وجود هدف محدّد هو الذي استطاع توحيد المصريين، إذ تُخرِج الشخصيةُ المصرية طاقتَها عندما تجد هدفاً مشتركاً تسعى إلى تحقيقه. في هذه الأوضاع، يُخرج كل مصري ما لديه لتحقيق الهدف. هذا ما حدث في ثورتَيْ عرابي وسعد زغلول وغيرهما».