في الشرق الأوسط الكبير الذي تمتد أراضيه من المغرب العربي إلى باكستان، بدت الولاياتالمتحدة التي كانت قوية في ما مضى، بمثابة نمر من ورق. فهي لم تستطع التأثير إطلاقاً في موجة الاحتجاجات الشعبية التي اجتاحت المنطقة. هذه هي أبرز سمات التسونامي السياسي الذي أطاح بنظامين عربيين ويزعزع الاستقرار في العديد من الدول الأخرى. تفرّج حلفاء أميركا الأوروبيون بقلقٍ متزايد على ضعف واشنطن في وجه التعبير الصريح عن «قوّة الشعب» في كل من تونس ومصر وليبيا واليمن وإيران والأردن والعراق والجزائر، ومن يعلم أي دولة هي التالية؟ في الأيّام الأخيرة، وفي ما يشبه المحاولة العبثية للّحاق بركب الأحداث، أدلى كل من الرئيس أوباما ووزيرة الخارجية هيلاري كلينتون بتعليقات علنيّة عدة، يشجعان فيها الاحتجاجات تارةً ويشجبانها طوراً. لكن أحداً لم يأبه بتصريحاتهما على الإطلاق. وكان حريّاً بهما أن يلتزما الصمت. لم يسبق لأي وضع آخر أن أوضحَ بشكل جليّ تدهور القوّة الأميركية. لا تزال الولاياتالمتحدة الدولة الأقوى اقتصادياً وعسكرياً في العالم، ولكن من دولةٍ الى أخرى، صديقة كانت أم عدوّة، تتعرض القوّة الأميركية «العظمى» للتحدّي وقوّتها «اللّينة» للسخرية. ينشغل الزعماء الأوروبيون بتدوين الملاحظات. وهل يمكن أن يقوموا بأكثر من ذلك؟ هل من طريقةٍ تمكّنهم من مساعدة أميركا على تصحيح أخطائها أو ردم الفراغ الحالي؟ حتى الآن، فشل الاتحاد الأوروبي في أن يصبح قوّة سياسية متماسكة، لكن بعض رؤساء الدول الأوروبية الكبرى بدأ يتنبه للتحدي الذي يشكله العجز الأميركي. بعيداً تماماً عن العاصفة التي تجتاح المجتمعات العربية، ثمة مشكلتان متصلتان بالشأن نفسه. الأولى هي أفغانستان حيث يبدو أن الولاياتالمتحدة تجرّ حلفاءها إلى مستنقع دموي. ويبدو أن الانتصار في حرب العشر سنوات هناك لم يعد في متناول اليد. وفي باكستان المجاورة، يتزايد العداء للولايات المتحدة. هل يجب على مجموعة من الدول الأوروبية أن تقترح مفاوضات طارئة مع حركة «طالبان» أو حتى مع الملاّ عمر نفسه؟ قد تكون هذه الطريقة الوحيدة امام التحالف الدولي للإفلات من هزيمة مذلّة. أمّا المشكلة الثانية المشتعلة، فهي انهيار عملية السلام العربية الإسرائيلية. منذ عقود، احتكرت الولاياتالمتحدة العملية على أساس أنها الدولة الوحيدة التي لها تأثير على كلا الطرفين. رضي الأوروبيون أن يلعبوا دوراً ثانوياً. جلّ ما فعلوه هو تمويل الفلسطينيين البائسين لكنهم مُنعوا من المساهمة سياسياً في المفاوضات. اليوم لم يعد ممكناً إخفاء فشل أميركا الذريع. ونتيجةً لذلك، أصبح ضرورياً أن تتحرّك أوروبا لتحمي نفسها على الأقلّ. إذا تابعت حكومة إسرائيل المتطرفة العمل لإقامة «إسرائيل العظمى» وإذا استمرّ الاستيلاء على أراضي الفلسطينيين من دون أي رادع، وإذا سقط حل الدولتين فعلاً، فسيندلع الغضب العربي والإسلامي عاجلاً أم آجلاً. والعنف سيصل الى العالم الغربي، أو بآخر. وينبغي على الجميع أخذ ذلك في الاعتبار. هذه هي الأمثلة الأكثر وضوحاً على فشل السياسة الخارجية الأميركية. في مصر، أسقطت الثورة ثلاثين عاماً من الديبلوماسية الأميركية. وكان القصد من المساعدات الأميركية المسرفة للجيش المصري حماية إسرائيل من خلال إبعاد مصر عن الصف العربي. قد لا تجدي هذه الاستراتيجية المبتذلة نفعاً بعد اليوم. في تونس، شوهد الرئيس المدعوم من أميركا يحزم أمتعته. في اليمن والبحرين والجزائر تواجه الأنظمة الموالية لأميركا تيّاراً متضخماً يُطالب بالتغيير. أمّا النظام الّليبي الذي تصالح مع واشنطن مؤخراً، فأثبت أنه الأكثر تعطشاً لإراقة الدماء من خلال ارتكاب المذابح ضد شعبه. في لبنان، دُفع حلفاء أميركا نحو عملية دستورية نتجت عن تولّي رئيس وزراء مدعوم من «حزب الله» السلطة، ممّا أثار الرعب في نفس الولاياتالمتحدة وحليفتها إسرائيل. في العراق، فشل الاستثمار الأميركي الضخم في عديد الجيش والموارد في أن يفوز ولو بتأثير بسيط. على العكس، أدت حرب العراق – وهي عملية إجرامية جرى خوضها على أساس معلومات استخبارية مضللة قام بفبركتها جزء كبير من المحافظين الجدد الموالين لإسرائيل – إلى وصول نظام شيعي إلى الحكم في بغداد تربطه صلة وثيقة بإيران، وهي نتيجة مؤسفة لم ترق أبداً للولايات المتحدة. على رغم أنّ إيران أيضاً متزعزعة في الداخل بسبب اندفاع «قوة الشعب» إلاّ أنّها بقيت صامدة ولا تُقهر في وجه العقوبات الأميركية والتهديدات اليوميّة بالهجوم العسكري الإسرائيلي أو حتى الأميركي عليها. قدّمت إسرائيل، الحليفة الأولى للولايات المتحدة، الأمثلة الأبرز التي تدل على شلل القوّة الأميركية. فقد صوتت الولاياتالمتحدة في اجتماع عقده مؤخراً مجلس الأمن الدولي في الأممالمتحدة بالفيتو على مشروع قرار كان يهدف الى إدانة المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية واعتبارها غير شرعية، علماً أنّ مشروع القرار هذا كان يحظى برعاية ما لا يقلّ عن 120 دولة. وصوّت أعضاء المجلس الأربعة عشر لمصلحة القرار وكانت الولاياتالمتحدة الاستثناء الوحيد. نادراً ما يوجد مثلٌ فاضح يبرز استيلاء القوى الموالية لإسرائيل على صنع القرار الأميركي، والتي لا يقتصر تأثيرها على الكونغرس وعلى مختلف جماعات الضغط ومؤسسات البحث والمؤسسات الإعلامية، بل يمتد أيضاً الى داخل الإدارة الأميركية نفسها. منذ بضعة أشهر، استطاع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو أن يرفض مطالبة أوباما بتجميد الاستيطان في الضفة الغربية. وفي الاجتماع الأخير لمجلس الأمن، استطاع أيضاً أن يؤمّن حماية أميركا لممارسات إسرائيل غير الشرعية. وكان ذلك إذلالاَ تاماً لأوباما الذي قرر أن يجد حلاً للصراع العربي الإسرائيلي، لكن بلداً متوسطياً صغيراً لا يتجاوز عدد سكانه السبعة ملايين هزمه، على رغم أن هذا البلد يعتمد كلياً على دعم الولاياتالمتحدة ومساندتها. فهل تضع مجموعة دول أوروبية برنامج عمل خاص بها لحلّ الصراع الذي فشل أوباما في حله؟ هل ستجرؤ هذه الدول أن تحذر إسرائيل من المقاطعة أو حتى من سحب السلع الإسرائيلية من الأسواق الأوروبية، إذا استمرّت في التعدّي على حقوق الفلسطينيين؟ بدأت أفكار من هذا القبيل تنتشر في بعض الدول الأوروبية، حيث يتزايد نفاد الصبر من العناد الإسرائيلي. ويفضل البعض أن تكون بريطانيا صاحبة المبادرة في تحرك كهذا، على الأقل ليس إلاّ لإصلاح ما خلّفه عهد توني بلير، عندما لحقت بريطانيا بالرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن والمحافظين الجدد في شنّ الحرب في العراق. ومن الضروري الآن أن تقوم بريطانيا بخطوة تؤكد قدرتها على خوض مسار مستقل في ما يتعلق بالشؤون الخارجية. لكن المعجزات ليست متوقعة. فرئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون منشغل كثيراً بمهمة إنقاذ بريطانيا من أزمة مالية واقتصادية لم يسبق لها مثيل. وقد لا يملك وزير الخارجية وليام هيغ المعرفة أو فريق العمل اللازم ليقوم بخطوة جريئة كهذه. ما لا شك فيه أن الزعماء الأوروبيين يشاهدون بقلقٍ كبيرٍ الدراما التي تتكشف شيئاً فشيئاً في الشرق الأوسط. ويتساءلون: كيف سيبدو المشهد السياسي الجديد؟ وماذا لو تحوّل انتباه الغضب العربي العارم إلى الصراع العربي الإسرائيلي؟ ومن سيتعامل مع انتفاضة كهذه في منطقة واسعة النطاق؟ أليس من الأجدر التحرّك قبل هبوب العاصفة؟ * كاتب بريطاني متخصص في شؤون الشرق الأوسط