يعيش الإعلام العربي، بصحافته وتلفزيوناته، منذ الثورة في تونس، ثم مصر، حالاً من الارتباك الشديد تجلّت في تغطية متردّدة يرتابها الخوف، وأحياناً متأخرة بعض الشيء، للأحداث وتطوراتها. وأغلب الظنّ ان هذا الإعلام الذي برع في تغطية الحروب وأخبار الموت في فلسطين ولبنان وأفغانستان والعراق، وتخصّص في نقل المواقف الرسمية من مصادرها، لم يعتد تغطية الحركات الشعبية ونقل صوت الشارع ومعاناة أبنائه اليومية. فلطالما كانت الكاميرات والميكروفونات مصوَّبة الى أعلى الهرم، لا إلى أسفله، باعتبار أن كلّ ما يجري تحتُ هامشيٌّ ومدسوس ومشكوك في عفويته وصدقه، وواجبٌ تجاهلُه. جاءت ثورات الشباب العربي لتقلب الموازين، وتقول : هذه المرة الكلمة لنا، وستستمعون إلينا! وجاء سقوط النظام التونسي، ثم المصري ليفرض واقعاً جديداً، على الإعلام العربي التأقلم معه، واقع تتعدّد فيه الآراء وتتوافق وتتعارض، وتشكو شخصياتها وتبكي وتنهار وتضحك وتفرح وتعيش مشاعرها بصوت عالٍ... واقع اسمه الديموقراطية التعدّدية، وأبطاله أناس عاديون جداً لا يملكون الكاريزما ولا يجيدون فنّ الخطابة ولا نسج الكلمات المبهِرة. أبطال «منّا وفينا»، لا يصلحون للكاميرا ولا لنسج الأحلام والأساطير حولهم. أشخاص حقيقيون على شاكلة «بو عزيزي» المشتعل من يأس، وخالد سعيد، الشاب الإسكندراني المغمور الذي قضى برصاص الشرطة، ووائل غنيم «بطل الكيبورد» صاحب الصوت المتهدّج والدموع السخيّة في كلّ إطلالة تلفزيونية. وما يزيد في ارتباك الإعلام العربي هو مطالب هؤلاء البسيطة، المتمثّلة في بيع الخضر على عربة، والحوار مع الشباب، وهي مطالب تخلو من أيّ بريق طنّان رنّان، مقارنة بالمطالب العظمى التي اعتاد أن يتعامل معها مسؤولو التحرير والمراسلون، وعلى رأسها تحرير فلسطين واستعادة القدس وعودة اللاجئين ومكافحة الإرهاب والوحدة العربية وغيرها. مطالب الثوار مربكة حقاً، في ضوء ما حُشيت عقولنا به في كلّية الصحافة: «إذا عضّ كلب رجلاً، فهذا ليس بخبر صحافي. بل الخبر أن يعضّ الرجل كلباًَ». ولكن ماذا عن وجع ذاك الرجل؟ ألا يستأهل الحديث عنه؟ ألا يستحقّ أن تكون المعاناة اليومية لمواطن عربي مانشيت صحيفة عربية أو في مقدمة نشرة إخبارية؟ قد يكون على الإعلام العربي أن يغيّر مفهومه الخاص بالعمل الصحافي، ويتخلّى عن ربطة العنق الأنيقة والحذاء اللمّاع، وينزل الشارع لينقل هموم ناسه البسيطة والموجعة، مع ولاء مطلق لحقائق بسيطة ومؤلمة لأصحابها، فيعود الى دوره الأساسي مرآةً للشعوب، لا لحكّامها. الدرس يأتينا من الشارع، من الأكثر بساطة وعفوية وصدقاً. نتبنّاه، أو يتجاوزنا الإنترنت بنقله الحقيقي والمباشر لتفاصيل صغيرة تصنع الحياة، حيث كلّ متصفِّحٍ مراسلٌ بهاتف نقّال، ومتصفّحٌ مخلص في الوقت عينه. ثورة التكنولوجيا لا ترحم!