كيف يرتب المرء سُلَّم عداواتِه؟ بل كيف يصنّفها إن كان حاكماً؟ هل يبدأ بغدر الأقرباء! بظلم الرفقاء! بنفاق البطانة! برعب المتآمرين! أم بقائمة أول بنودها انقلاب الشعب ومذلة الوطن؟ فماذا إن قدّر لكل العداوات أن تفعّل في تزامن وتوالٍ وعلى رأس رجل واحد؟ فمن سيقف معه والقوم ينفضّون من حوله؟ من سيصر على وفائه مع حاكم غربت شمسه أو شارفت على المغيب؟ ثم ماذا إن كان من التزم بوفائه - لحاكم في محنة - هو أيضاً سياسي يعي لغة المصالح ولكنه يؤثر أبجدية الانحياز لإنسانيته؟ وهذه هي قراءتي لموقف الملك عبدالله من الانقلاب على مبارك، فحين أصر الملك على أميركا ألاّ تهين الرجل، لم ينطلق من دوافع برغماتية مزدوجة كما يتصرف الساسة في أوضاع مشابهة، فغير المرغوب فيه هو ذاته مبارك الذي لم يتخلَّ عن السعودية في وقتها الصعب إبّان حرب الخليج، أفلا يجدر بالسعودية أن تحفظها له وتعامله بالمثل في وقته الحرج، وكان الأنفع لها والأقرب تقليد أميركا في حذوها مع حلفائها! وهو نفس مبدأ العربي بأصالته و«فزعته» الذي استضاف ابن علي بطائرة حامت في السماء فلم تجد لها أرضاً تؤويها. إنه عبدالله بن عبدالعزيز مذ عرفناه، لم يتلون، ولم يتغير، ولم يَحِد عن عفويته الصادقة وهو يرحب بعزت إبراهيم في قمة بيروت العربية ال14 أو «أبا أحمد» كما ناداه ونقلته إلينا الشاشات، الأمر الذي إن جنحنا للمنطق العملي من شأنه أن يطمئنّا كسعوديين، فمن لا يتنكر لمن عرف يوماً، (وكان لقوته أن تغريه فيُعلي مصلحته ويفعل)، لن يرضى لشعبه بأقل من الأمان والعيش الكريم، وسيذكر التاريخ لهذا الملك كيف سار بوطنه بكل حكمة وإصلاح. رشيد عالي الكيلاني، من تولى رئاسة وزراء العراق ثلاث مرات، وتزعم ثورة 1941 لتطهير بلاده من الإنكليز والأوصياء، أصدر الإنكليز حكمهم بإعدامه، ففر من العراق وتنقل بين دول أوروبا إلى أن توجه إلى الرياض يستجير بها، فماذا كان موقف الملك عبدالعزيز من المطلوب تسليمه؟ قبِله ضيفاً على البلاد وتحمَّل من أجله توتر العلاقات مع بريطانيا وضغوط الحملات الإعلامية بهدف إبعاده، فلم يغادر الكيلاني أرض السعودية، وعمل مستشاراً لعاهلها إلى أن شاء الله أن يتوفى المجير، والكيلاني هذا هو مجرد اسم في كتاب المروءة السعودية، فهي إن لم تكن مروءة فماذا تكون؟ فمن آل حميد الدين والإمام محمد البدر ومحطته السعودية بعد الانقلاب الذي أطاح بملكه في اليمن عام 1962 إلى عيدي أمين إلى نواز شريف إلى البقية تأتي، أم تراني أخطأت السمع وابنة الملك فاروق تعلن في مقابلتها عن إعانات آل سعود لأسرتها! فلا أظن أن مخصصات لعائلة حاكم راحل غابت عنها الأضواء كانت سارية لربما يأتي يوم وتحكي فيه الابنة على الملأ، ولكنها مبالغ استقطعت رحمة بمن انكسر وأمانة في عنق الرجال، فليس بالعروش وحدها يسود الملوك، ولكن بما يسطرونه من خُلُق لا يقبل النسخ ولا التزوير. البدوي العربي يقسو نعم، ويستبد بقناعته نعم، ولكنه ليس بقاتل ولا ديكتاتور، فهو يغزو لمغنم وحلال واستقرار، فإن اضطر إلى الدم سبيلاً لعيشه وكرامته فلا بأس، وبشجاعة الرجال يُقدم ويدافع ولا يفكر مرتين، ولكنه من الأساس لم يَغْزُ تعطشاً لقتلٍ وسَحْلٍ، هذا هو البدوي بطبعه، وما عدا ذلك فهو دخيل عليه، وها هو عبدالكريم قاسم يحكم العراق من بعد الأسرة الهاشمية فيمثّل بالملك فيصل الثاني في شوارع بغداد ويسحل الهاشميون بكل وحشية، وها هو الملك عبدالعزيز مع الأشراف بكل ما حاكوه ضده من دسائس! بل انظر إلى إنصافه مع ابن رشيد! ومن المؤسِّس إلى ابن المؤسِّس إلى كل مواطن سعودي، فمثلنا لا يُطوّق بغير شرف الوفاء، فلا تستكثروه علينا! [email protected]