يدفع رنين الجرس الفتيات إلى التزاحم للاصطفاف بشكل عامودي في أماكنهن المعتادة. ينطوي الزمن على كل ما في الخارج فيدخلن تباعاً إلى صفوفهن. الكراسات والمقررات والكتب المعتمدة لا تحوي كما هو متعارف عليه مواد أدبية وعلمية أو دروساً في الفيزياء والكيمياء. هنا المنهج مختلف ومتعلق بغالبيته بالاقتصاد الإسلامي، وجغرافية العالم الإسلامي وعلوم الأديان وفقه الدعوة والمعلوماتية. هنّ لسن في مدرسة خاصة أو رسمية تتبع المنهج المقرر من وزارة التعليم. إنهن في معهد ديني. بعضهن اخترن سلوك هذا الدرب والبعض الآخر رضخن له منصاعات لرغبة ذويهن أو لظروف معيشية قاسية لا تخولهن أن يكنّ كمعظم الفتيات في أعمارهن في مدرسة عادية. يقع «معهد الأمين للعلوم الشرعية» في محلة الزاهرية في طرابلس في شمال لبنان، في شارع منزوٍ يسوده الكثير من الهدوء، وهو عبارة عن شقتين واسعتين قسّمتا إلى صفوف لمرحلتي الابتدائي والمتوسط. المقاعد موزعة في الغرف بشكل منظم ومتناسق مع عدد الطالبات الذي قد يصل إلى 34 طالبة في الصف الواحد. تتوسط الغرف ألواح عادية كسائر قاعات الدراسة ويتوسط الردهة الخارجية لوح خشبي تعلق عليه الفتيات مشاريعهن أو فروضهن المميزة. المشروع الأبرز الذي يجذب الناظر إليه من إعداد إحدى الطالبات تشرح فيه مساوئ الاختلاط بين الذكور والإناث عارضة مخاطره ومحذرة من النتائج السلبية التي قد تنتج منه. في المعهد غرفة مخصصة لتحفيظ القرآن وقد تعطى فيها حصص مسائية مختلفة عن المنهج الأساسي للتدريس. مكتب الإدارة في الجهة اليمنى المقابلة للمدخل. يوجد أيضاً غرفة مزودة بأجهزة الحاسوب وفي إحدى الغرف دكان صغير يلبي حاجات الطالبات من وجبات سريعة. تقل الباصات يومياً فتيات وشباناً من طرابلس وضواحيها كالميناء، والزاهرية، والقبة، والتبانة وأبي سمراء وحتى المنية والضنية إلى معاهد كمعهد الأمين، ولا يخفى أن في طرابلس الآن نحو بضعة عشر معهداً متخصصاً في العلوم الشرعية احتشد معظمها في منطقة أبي سمراء وعلى مستويين : إعدادي وثانوي، يتخرج الطالب في نهايتهما ليلتحق إن شاء بالكليات الدينية المختلفة في جامعتي الجنان والإصلاح. ولكن ماذا بعد التخرج؟ أو بالأحرى ماذا بعد نيل الديبلوم والدكتوراه؟ هل من فرص عمل؟ ولماذا تشكل الإناث النواة الأساسية لهذه المعاهد؟ هل هناك من حاجة ماسة إلى العشرات، بل المئات من خريجي المعاهد الشرعية والكليات الإسلامية؟ وما مدى تفاعل هذا النظام التعليمي الذي صار يشكل بديلاً عن الدراسة الأكاديمية مع مختلف شرائح المجتمع؟ طفرة في المعاهد يسهل الحصول على رخصة لإنشاء معهد شرعي في لبنان. فيكفي أن يكون تابعاً لوقف أو جمعية معينة حتى يمنح الترخيص. لا شروط محددة أو رقابة على الكتب والمناهج رغم التنسيق الذي يتم على مستوى الإدارات في المعاهد المختلفة بحكم الهدف الموحد والمتشابه بينهما. والسؤال الأول الذي يتبادر إلى الذهن لماذا هذه الطفرة في إنشاء المعاهد الدينية في شقق سكنية ليس فيها مقومات كافية لإنشاء معهد دراسي صحيح؟ فهل هي رسالة أم تجارة تتم من خلال تصوير شريط فيديو لحفلات «التخرج» يرسل إلى المحسنين؟ يوجد أكثر من عشرة معاهد للعلوم الشرعية في الشمال وأبرزها «الدعوة والإرشاد»، و»طرابلس للعلوم الشرعية»، و»الهداية والإحسان»، و»الدار الحديث» و»البخاري» في عكار. والملفت أن شريحة كبيرة من الطلاب هن من الإناث، وإن احتوت المعاهد أقساماً للذكور، فهي بمعظمها مسائية، باستثناء معهد البخاري المخصص للذكور. يختلف الوضع بالنسبة إلى الجامعات فهي محصورة باثنتين هما «جامعة طرابلس» و»الجنان». لا تشترط هاتان الجامعتان أن يكون الطلاب من خريجي المعاهد الدينية. وهي، إضافة إلى الطلاب المحليين، تستقبل طلاباً أجانب من دول آسيا الوسطى وأفريقيا يقصدونها بموجب منح للحصول على شهادة جامعية في علوم الشريعة يغادرون بها إلى بلادهم. وباعتبار أن طرابلس بيئة جاذبة وحاضنة للملتزمين دينياً، لقيت المعاهد الشرعية فيها قبولاً من مختلف شرائح المجتمع. وقد وجد بعض السكان في هذه المعاهد تخفيفاً للأعباء المادية التي يرزحون تحت وطأتها. يقول الشيخ بلال حدارة، عضو مجلس إدارة معهد الأمين، «أنه أنشأ وبعض الأصدقاء، بعد إتمامهم دراسة الشريعة في المدينةالمنورة منتصف التسعينات المعهد الذي يعرف الآن بمعهد الأمين. وقد لقي قبولاً اجتماعياً رغم أن المعاهد لم تكن منتشرة بكثرة آنذاك». حدارة الذي حول توجهه من الدراسة الأكاديمية الجامعية إلى الدراسة الشرعية يقول «إن الهدف من إنشاء المعاهد الدينية هو صياغة وتشكيل وتكوين العقلية التي تمكن صاحبها من الفهم الصحيح المتوازن للأحكام الشرعية وصناعة السلوك القويم الذي يتسم بالاعتدال والتوازن». خيار أسهل؟ يتوجه خالد، طالب ثانوي، إلى المعهد الشرعي يومياً وقد حضّه أحد أصدقائه على هذا التوجه. تخلى الصبي الذي ما زال في عامه السادس عشر عن دراسته الأكاديمية رغم محاولات والديه المتكررة إقناعه بأن يحقق حلمهما بمتابعة دراسته والحصول على شهادة جامعية. يفضل خالد أن يصبح إماماً لجامع وهو مقتنع بأن لا جدوى من شهادة قد تفصله عن أمور دينه. يقول خالد انه يشعر بانتماء اكبر بين أساتذته وزملائه في المعهد، بخاصة أنه ذو شخصية انطوائية. فهو الآتي من قرية صغيرة في عكار لم يستطع يوماً أن يثبت وجوده في الثانوية الكبيرة. «التسجيل مجاني في معظم المعاهد وكذلك الكتب واللوازم. وإن كانت هناك أي تعرفة فهي رمزية أغلب الأحيان، الأمر الذي يزيد الإقبال على المعاهد كخيار بديل عن التعليم الأكاديمي،» يقول حدارة. ويقول الشيخ صفوان الزعبي، انه «ضد هذه الطفرة في المعاهد حيث أن لا اعتراف رسمياً من قبل الدولة بهؤلاء الخريجين». ويضيف أن «معظم الطلاب، بخاصة الذكور، هم من واجهوا مشاكل في دراستهم الأكاديمية، كالرسوب مثلاً، وبالتالي لا ينطلق توجههم من التزام ديني بقدر ما هو الخيار الأسهل». تربية بديلة كان المعهد الديني الحل لضبط محمد الذي كان يثير الكثير من المشاكل في المدرسة. والد محمد، أب لسبعة أبناء، أعجبته الفكرة فأدخل فتياته الثلاث إلى معهد ديني أيضاً. «أستطيع هكذا أن أكون اكثر اطمئناناً من الناحية المادية والخلقية أيضاً، وما تشاهده الفتيات على التلفزيون يعد اكثر من كاف لإفساد تربيتهن في هذا العصر»، يقول والد محمد وتوافقه الأم الرأي. ويقول حدارة «إن الأهل الذين قد لا يثقون بالمدارس الرسمية أو حتى الخاصة أحياناً يسجلون بناتهم في معهد ديني، كونها ستتزوج وتصبح ربة منزل وأسرة بعد أن تنهي دراستها وبالتالي سيكون الإلمام بأمور دينها اكثر فائدة من أي شيء آخر». تختلف أعمار الطالبات بدءاً من العشر سنوات إلى سن غير محدد. وتقول عطفت قزيحة، مدرسة في أحد المعاهد، إن الفتيات اللواتي يدخلن المعهد لسن بالضرورة ملتزمات أو على وعي كامل بواجباتهم الدينية والدنيوية. «نقوم هنا بتعليم الفتاة، التي غالباً ما تكون مقصرة في أمور عدة لجهلها بها. وأنا شخصياً انظر للمعهد كمشفى يسعى لبلورة خلق الفتاة»، تقول قزيحة. وتضيف «لا تسلم الفتيات من التأثيرات الخارجية كالتلفاز وما إلى ذلك، وهذه من أبرز المشاكل التي تعترضنا نحن كمربيات». ارتدت ربى الحجاب بعد دخولها إلى المعهد بناء على رغبة ذويها، كون ذلك شرطاً أساسياً للقبول فيه. اعترفت ربى، وهي طالبة في الصف السابع، بعد إلحاح كبير، وبخجل شديد أنها تشتاق إلى مدرستها القديمة وصديقاتها، ولكنها استدركت قائلة «المعلمات هنا جيدات». بعض الطالبات يتحولن إلى معلمات في المعاهد. قلة منهن يكملن تعليمهن الجامعي ومعظمهن يتحولن إلى ربات منزل «جديرات بالثقة» كونهن اقل عرضة للحياة في المجتمع البديل اللواتي ينتمين إليه، قسراً أو طوعاً. تمويل خارجي وعما إذا كانت الجامعة تتلقى مساعدات من الخارج، يقول حدارة «طبعاً نحن نتلقى مساعدات خارجية، شأننا كذلك شأن كبريات الجامعات في لبنان التي تتلقى دعماً من الخارج ومن الداخل على رغم أقساطها الباهظة، فكيف بالمؤسسات غير الربحية والتي تحمل هم النهوض بالمجتمع بكل فئاته نحو الأفضل والأمثل». ويضيف «إن الصلات التي تربطنا بالعديد من المؤسسات الخيرية الإسلامية في بعض دول الخليج وبعض المحسنين في لبنان والخارج كفيلة بالمؤازرة المالية لمعاهدنا». وعما إذا كانت المعاهد تخضع لمراقبة جهة دينية أو مدنية رسمية، يقول حدارة «نحن حريصون على اتباع المنهج السلفي الصالح. معظم المعاهد تخضع لرقابة ذاتية وتحمل كثير منها قدراً كبيراً من التعاون والتنسيق مع المرجعيات التي تنتمي وإياها إلى دين واحد». ويقول عبد القادر الأسمر، المستشار الإعلامي لمفتي طرابلس إن «دار الفتوى يملك لائحة علم وخبر بالمعاهد الموجودة، ولكنه لا يتدخل في مناهجها أو مقرراتها ولا يشرف بشكل رسمي عليها». ويعتبر الزعبي أن «غياب الرقابة عن هذه المعاهد قد يؤدي إلى تعميم خطاب ديني متشدد وغير منضبط». وان كان حدارة يرى أن «هذه المعاهد تحمي من الإرهاب وتشكل ضمانة لعدم انتشار أفكار كالتي تعمم عبر الإنترنت والدخلاء على الدين»، يقول الزعبي «إن الهدف المادي أساسي في إنشاء الكثير من المعاهد وكذلك هو وسيلة للجامعات كي تؤمن منحاً تفوق بكثير ما ينفق منها على الهدف الأساسي الذي هو تعليم الشريعة». ... وللأجانب حصة يختلف الوضع في إحدى الشقق السكنية في أبي سمراء- طرابلس. الطلاب الذين يسكنونها ليسوا من أهل المدينة. انهم الآتون من البعيد. عصفت بهم الحياة وأعطتهم فرصة لاختبار تجربة جديدة يعنيهم منها الشق الديني. فقد هجروا الشق الدنيوي ل «قضايا أهم». تختارهم جماعاتهم للحصول على امتياز «التعليم الديني» في لبنان، وتفتح لهم الجامعات أبوابها «مجاناً»، فالمساعدات التي تحصل عليها الجامعات لاستضافة هؤلاء الطلاب اكثر من كافية. ورغم وفرة «الخير»، يختبر هؤلاء الطلاب شظف العيش نظراً لما يفترض انه متاح أمامهم. طلاب من عدد من الدول العربية والأوروبية والأفريقية والآسيوية يقصدون لبنان للحصول على شهادة تخولهم الانطلاق في مجال الدعوة والتعليم والإرشاد في المراكز الإسلامية وتدريس اللغة العربية في السجون وتوجيه الجاليات الإسلامية في بلاد الاغتراب، بحسب ما يقول احد الشيوخ في المنطقة. يزور عبد الحميد، القادم من أفغانستان، الجوامع مع أصدقائه. يجلسون هناك كل مساء بعد صلاة المغرب ويلتقون بالعديد من «الإخوة» لمناقشة أمور دينية أو تلاوة القرآن. يطلق عبد الرؤوف لحيته ويرتدي جلباباً أبيض ويمشي في المدينة التي حفظ معظم شوارعها وصار متآلفاً مع المكان الذي قصده منذ حوالى عامين. يعتبر أن «التعليم الديني في لبنان أتاح له فرصة الدخول إلى مجتمع مختلف عن الذي نشأ فيه والتعرف على أصدقاء جدد وبعض من الجالية المسلمة في العالم العربي». يتشاطر عبد الحميد السكن مع ثلاثة طلاب آخرين، من أفغانستان ونيجيريا والسودان. تخولهم المنحة الحصول على مصروف بسيط ينفقون معظمه على الطعام. نادراً ما يستعملون المواصلات فهم يقصدون الجامعة سيراً على الأقدام ويمضون ما تبقى من الوقت في المساجد. يشتاق عبد الحميد إلى أهله وزوجته وينتظر أن يحصل على شهادة ليحملها إلى بلاده، ويقول «نشعر هنا أننا في مجتمع غريب عنا بعض الشيء، ولكننا نؤمن أن وجودنا فيه ضرورة نظراً للفرصة المتاحة أمامنا والتي ستعزز رسالتنا الطويلة الأمد في خدمة الإسلام». إلى ذلك، يقول عبد الحميد «انه وأصدقاءه ينتابهم شيء من الخوف، ليس من المتدينين أمثالهم، إنما من السلطات ألأمنية التي قد يكون لها بعض الشكوك حول أسباب تواجدهم في لبنان». من وجهة نظر الدكتور عبد الغني الصمد، أستاذ العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية، «يتجاوز موضوع التعليم الديني في لبنان الجانب التربوي، ليطال أبعاداً سياسية تتعلق بهوية الوطن ودوره في المنطقة». يقول الصمد «إن التنوع في التركيبة اللبنانية من جهة تعدد الطوائف يتناقض مع الهوية الملتبسة التي تحاول إقحامه كمهد للتعليم الديني». «لا ضير من وجود طلاب من جنسيات مختلفة في المدينة، ولكن السؤال الأبرز يبقى هل من جهات أمنية تدقق بإقامتهم هنا وتتأكد من عدم توظيفهم لمهمات خارج إطار التعليم الديني؟»، يسأل الصمد. يستبعد احد المصادر الأمنية أن يكون هؤلاء الطلاب في لبنان لتنفيذ أي مهمات جهادية، ولكنه يضيف أن «الخطر قد يكمن في أفكارهم المتشددة، فمعظمهم ينتمي إلى تنظيمات إسلامية وقد تؤثر أفكارهم على شريحة كبيرة من الشبان في المنطقة». ونظراً لوفرة المساعدات الخارجية التي يجذبها المعنيون بذريعة التعليم الديني، يتخوف المصدر الأمني من أن تكون التجارة هي القطبة المخفية في الموضوع.