يحتل سيرج سوترو موقعاً متقدّماً بين مؤرخي الفن الحديث في أوروبا يعود إلى غنى رؤيته البانورامية لطلائع النصف الأول من القرن الماضي وارتكازها على عناصر تاريخية تنتمي إلى ميادين مختلفة. وهذا ما يفسر تعيينه أستاذاً لمادة الأدب الأميركي في جامعتَي نيويورك وتكساس، ثم أميناً لمتحف جورج بومبيدو (باريس) على مدى عقدٍ كامل من الزمن نظّم خلاله معارض فنية مهمة. لكن أهمية فوشرو تكمن خصوصاً في الأبحاث المرجعية الغزيرة (أكثر من أربعين) التي وضعها حول الفن الحديث وأبرز وجوهه (جورج براك، جان آرب، فرانز كوبكا، موندريان، فرنان ليجي، ماليفيتش، برانكوزي...)، وكان آخرها مجلدٌ ضخم صدر حديثاً لدى دار «فلاماريون» الباريسية تحت عنوان «طلائع القرن العشرين» ونتعرّف فيه بالتفصيل على نظريات وممارسات جميع التيارات الطليعية التي ظهرت في أوروبا وروسيا وأميركا خلال العصر الذهبي للحداثة (1905-1930). تكمن أهمية هذا المجلد أولاً في عدم اكتفاء فوشرو بالتيارات المعروفة، كالتعبيرية والتكعيبية والمستقبلية والدادائية والسوريالية والتفوّقية والتشييدية، وفي كشفه عن تياراتٍ أخرى كانت فاعلة أثناء تلك الفترة المجيدة وإن بقيت إنجازاتها ووجوهها شبه مجهولة حتى اليوم، كالتيار الصوَري (imagisme) والإشعاعي (rayonnisme) والتخيّلي (imaginisme) والبلدي (indigénisme) والافتراسي (anthropophagisme). وفي حال أضفنا عدم اكتفاء فوشرو أيضاً بميدان فن الرسم كفضاءٍ لبحثه وتجاوُزه له في اتجاه الأدب والفنون الأخرى (الهندسة، الموسيقى، التصوير الفوتوغرافي، النحت، المسرح، المُلصق، الديزاين...)، من دون إهمال الإبداع المستقل وغير الطليعي، لتبيَّنَ لنا مدى صعوبة هذه المهمة التي لم يضطلع بها أحدٌ قبله. وفي توسيع نطاق البحث على هذا النحو، ثمة دائماً مجازفةٌ في الوقوع داخل قائمة جَرْدٍ لا رأس لها ولا عقب. لكن فوشرو عرف كيف يتجنب ذلك بفضل شغفه الكبير بموضوعه الذي ينعكس داخل بحثه شكلاً ومضموناً. هكذا نقرأ نصّه على شكل سفرٍ استكشافي مثير وفقاً لخيطٍ موجَّه: وضع جميع التيارات الطليعية في حالة مقابلة بعضها مع بعض وكشف روابطها الوثيقة ونقاط تشابهها، على رغم الاختلافات وأحياناً الخصومات. وثمة فكرة أخرى موجهة لهذا العمل الضخم مفادها أن تاريخ الفن لا يسمح بأي تنبّؤ على المدى الطويل، لأنه لا تقدُّم في الفنون، على رغم تطوّر التقنيات، بل تحوّلات ودورات. بعبارةٍ أخرى، يسير التاريخ بطريقةٍ دائرية حلزونية تشهد عليها الأشكال والميول التي تتطوّر، تتوارى ثم تعود بعد فترة قصيرة بشروطٍ أخرى. وهذا ما يدفع فوشرو إلى اعتبار أي تيار طليعي كتقدُّمٍ داخل الزمن أكثر مما هو ثورة حقيقية، كالتكعيبية التي شكّلت انقلاباً جمالياً بشّر به روّاد مثل رامبو ومالارميه وسيزان وفان غوغ وبرغسون وفرويد، وفرضه بيكاسو وأبولينر في العقد الأول من القرن العشرين، لكنها لم تمنع المثالية الرومنطيقية من العودة عن طريق التعبيرية الألمانية أو السوريالية. ويشدِّد فوشرو مراراً داخل بحثه على أن النزعة إلى الجديد لم تكن يوماً شاملة، ولذلك لا يمكن لأي ثورة جمالية أن تكون مطلَقة فتُعارِض إعجابنا بأعمالٍ مشغولة بعناية لكن مجرّدة من أي تجديد. وفي هذا السياق، يبيّن أن النزعة التقليدية لا علاقة لها بردود الفعل الدورية التي تثيرها مغالاة بعض الطلائع، كالواقعية الاشتراكية التي انبثقت من قرارٍ سياسي ولكن أيضاً على أثر الملل من الجانب اللاعقلاني للتكعيبية والمستقبلية ومن جفاف التشييدية، أو الواقعية الشديدة التي عادت إلى التصوير التقليدي كردّ فعل على الالتباس التجريدي الطاغي. باختصار، يتم مع كل جيل مراجعة لائحة التحف الفنية والأدبية التي نجد فيها بعض الوجوه الثابتة كمناراتٍ أو كمراجع نظرية كبرى، ترتفع أو تنخفض قيمة اقتراحاتها على مر التاريخ وفقاً لسلطة التوجّهات والتحديدات الجديدة لها. لكن التاريخ، يذكّرنا فوشرو، لا يحفظ فقط الأبطال والنجوم، فالأدوار الثانوية كثيرة فيه وضرورية لسببين: من الأسهل أحياناً رؤية واستيعاب مميزات أي جماليةٍ لدى فنانٍ تبنّاها بعد ظهورها بسبب ميله إلى المغالاة في إظهار انتمائه إليها؛ ومن الجائر عدم الإقرار لهذا الفنان بقليلٍ من الجدارة. فعلى سبيل المثال، صحيح أن جان ميسانجي وريشارد ألدينغتون لم يغيرا مسار فن الرسم أو الأدب مثل بيكاسو وباوند، لكن كل واحد منهما احتل موقعاً مهماً في حقبته. ولأن الفكرة القوية لا تنفصل عن الشكل المناسب التي ظهرت فيه بل تولد معه، ولأن الأشكال إذاً هي أفكار، والأفكار أشكالٌ، يتوقف فوشرو أيضاً عند التأملات النظرية للطلائع وعند نضالاتهم الاجتماعية والسياسية التي رافقت ثوراتهم الشكلية، كفوضوية هوغو بال أو جون كايج، وشيوعية روتشنكو أو أراغون، وفاشية مارينيتي وباوند، والميول النازية لنولدي أو روتمان. وفي معرض تحديده للصورة الطليعية، يقول فوشرو: «ترتكز الصورة الطليعية على خطابٍ تتقابل داخله عناصر شكلية (أو مفاهيم) مختلفة إلى حدٍّ يولّد شرارات، تماماً كنقطة تماس قطبين كهربائيين متضادين. وتفعل هذه الصورة فعلها مرةً واحدة، عند أوج التاريخ. أما المرة الثانية فتكرارٌ وتقليد. مرآةٌ لخيال حقبةٍ ما وتأملاتها، نعثر عليها في كل عمل ابتكاري حقيقي». ولا يُهمل فوشرو اهتمام جميع الطلائع والمبدعين المهمين بالثقافات الأخرى التي شكلت أيضاً مصدر وحي لهم إلى حدٍّ تظهر الثقافة الغربية فيه كمحيطٍ شاسع ومتصل بمحيطات أخرى، تحرّكه في العُمق موجات وتيارات مختلفة ويوفّر اتصال مختلف ميادين الإبداع بعضها ببعض. وهذا ما يُفسر الجانب الدولي للتيارات الجمالية الكبرى وانحرافها أحياناً بعيداً عن مكان انبثاقها. وينظر فوشرو إلى الثقافة الفنية والأدبية كما لو أنها «غابةٍ شاسعة وكثيفة، تتراوح الخُضرة فيها من مكانٍ إلى آخر ونستدلّ طريقنا في أرجائها بفضل أشجارٍ عالية جداً، معزولة أو مركزية، أو بفضل سنديانات ألفية؛ أشجارٌ لا تمنع أوراقها الكثّة وجود أشجارٍ أصغر حجماً لكن جدّ فريدة، أو شجيراتٍ وأعشابٍ متواضعة تشكل بيئةً حيويةً للغابة برمتها. ولدى تنقلنا داخل هذه الغابة، علينا الأخذ بعين الاعتبار نزوات وميول اللحظة التي تقودنا إلى أماكن تكون شجرةٌ كبيرة قد نبتت فيها فجأةً (لم نكتشف الرسام فيرمير إلا بعد قرنين من الزمن على وفاته) أو تكون قد يبست أشجارٌ أخرى كنا نكنُّ لها احتراماً كبيراً. وإن عثرنا على أنواعٍ جيدة من الشجر في أماكن متفرقة من الغابة فلأن الريح قادرة على نقل البذار بعيداً جداً (السوريالية بلغت اليابان، والتشييدية بلغت البرازيل)». وكي لا تُصبح الغابة مستحيلة الاختراق، يدعونا فوشرو إلى الاعتناء بها، أي تشحيل الأشجار التي لم تعد لها فائدة، وتهوئة وتحرير أشجار أخرى لم تكن مقشوعة جيداً، واقتلاع الأشجار الميتة، كما يدعونا إلى مراجعة نظام التنقّل في هذه الغابة الذي يسمح بالتمتع بها، من دون إغفال أن اللافتات الكبرى، كالتكعيبية أو السوريالية، ليست سوى إشارات عامة، وأن ترتيب الغابة بشكلٍ جد عقائدي يحوّلها إلى حديقة فرنسية شديدة الوضوح لكن جامدة ومعزولة، بعكس الفن الذي هو متعدِّد ومتحوِّل وحيّ.