إذا كان الهدف الأساسي من خطاب أوباما، غداً من القاهرة، تحسين العلاقة مع العالم الإسلامي، فإن السؤال الأجدى بالنظر هو: ما دلالات تحسين هذه العلاقة على أوضاع العالم الإسلامي نفسه؟ فقد جرى العرف فى بلادنا على توجيه اللوم للقوى الخارجية فيما يخص إفساد الأوضاع الداخلية، وتوتير العلاقة بين أطراف العالم العربي والإسلامي. وكانت فكرة "صراع الحضارات" بمثابة هدية غربية لترسيخ مثل هذه الصورة الذهنية لدى العرب والمسلمين. وهي حجة جرى تثبيتها بعد وقوع هجمات 11 أيلول (سبتمبر) 2001، وولع المحافظين الجدد بالانتقام من كل المسلمين ومعاقبتهم على ما فعله نفر قليل منهم. فكان أن أطلق جورج بوش "حروبه الصليبية" فى أفغانستان والعراق، وتبارى المحافظون الجدد فى توفير الدعم لإسرائيل، حتى ظنت لوهلة أنها تملك الشرق الأوسط بمن فيه، فكان أن خاضت حربين داميتين فى أقل من عامين (لبنان وغزة)، ومنحها بوش "وعداً للضمانات" أسقط بوضوح جوهر الحقوق الفلسطينية والعربية. بيد أن ما سبق لا يُسقط مطلقاً مسؤولية العرب والمسلمين سواء عما لحق بهم من مصائب ومآس، أو عما حدث على صعيد علاقتهم مع الغرب. وهو ما يبدو جلياً عند مقارنة رغبة أوباما فى التغيير، ورغبة العرب والمسلمين فيه، فضلاً عن قدرتهم على إحداثه. وهو ما يمكن اختباره فى ثلاث قضايا رئيسية، أولها يتعلق بمسألة الديموقراطية في العالم العربي. فلربما لعبت الولاياتالمتحدة دوراً مهماً فى دعم بعض الأنظمة السلطوية فى العالم العربي والإسلامي طيلة العقود الستة الماضية، وذلك على نحو ما اعترفت به صراحة وزيرة الخارجية السابقة كوندوليزا رايس فى خطابها الشهير بالجامعة الأميركية في القاهرة قبل أربعة أعوام. بيد أن مسؤولية النخب العربية، حاكمة ومحكومة، تبدو أصيلة فى ذلك. وهي النخب التي أربكتها، ذهاباً وإياباً، دعوة إدارة بوش للتغيير (لاحظ استخدام أوباما لنفس المصطلح) فى العالم العربي. فعلى صفحات هذه الجريدة اختلف العرب حول جدوى الدعم الأميركي للديموقراطية فى بلادهم، وانقسمت النخبة العربية تجاه مقولة "بيدي... لا بيدي عمرو"، وبدا أن ثمة بون شاسع بين طموحات التغيير لدى هذه النخبة والقدرة على إنجازه. وفي حين تراجعت "يد عمرو" عطفاً على صعود الإسلاميين فى أكثر من بلد عربى، بقيت "اليد" العربية مغلولة وغير قادرة على تحقيق هذا التغيير. الآن يناجى كثيرون الرئيس أوباما ألا ينسى الحديث عن الديموقراطية فى خطابه المرتقب. وفى المقابل تبدو الأنظمة العربية أكثر مكراً ودهاء، فقامت خلال الشهور القليلة الماضية، وبعد رحيل إدارة بوش، بإحداث قدراً من التغييرات السياسية الملحوظة، فأطلق بعضها معارضيه من السجون، وعفا عن البعض الآخر. في حين طرحت بعض الأنظمة تعديلات مؤسسية بشكل مفاجئ، وآثر فريق ثالث تعديل بعض المواثيق والدساتير من أجل البقاء في السلطة للأبد. وكأن الرسالة الضمنية التي أرادت هذه الأنظمة توجيهها للخارج هي "لا تغيير رغماً عنا"، وهو ما فطِن إليه أوباما جيداً وجعله يتحاشى أي حديث مباشر عن دعم الديموقراطية، مُحيلاً المسؤولية فى ذلك إلى الشعوب وحدها على غرار ما لمّح إليه فى خطاب التتويج. القضية الثانية هي مسؤولية العرب والمسلمين عن صراعاتهم الممتدة من الصومال وحتى باكستان. وهي بالأساس صراعات على السلطة، وإن غلّفتها شعارات الدين والهوية والقبيلة. فما يجرى فى الصومال حالياً، أشبه بما حدث في أفغانستان عقب رحيل القوات السوفياتية منها أواخر الثمانينات من القرن الماضي، أو ما يمكن تلخيصه فى عبارة واحدة هي "حرب الكل ضد الكل". فالجميع فى الصومال يحمل السلاح، حتى الصوفية التي عرفناها حركة إسلامية روحانية معتدلة، دخلت على خط المواجهة المسلحة مع حركة "الشباب" التي تسعى بكل جهد إلى إقامة "إمارة صومالستان" فى قلب العالم العربي. وما يجري فى اليمن يبدو عصياً على الفهم، فالبلد يعيش فوق صفيح ساخن ليس فقط بسبب الصراع بين الدولة والجهاديين والمتمردين، وإنما أيضا بفعل ظهور "فيروس" الانقسام الوطني والجغرافي من جديد بعدما ظنّ كثيرون خروجه من الجسد اليمني. وما يحدث فى باكستان، وإن كان للأميركيين دور واضح فيه، إلا أن جذوره تضرب فى عمق البنية المؤسسية للدولة والمجتمع الباكستاني. والملفت فى المواجهة الراهنة بين الجيش الباكستاني وحركة (طالبان – باكستان) أنها تسيء للعالم الإسلامي أكثر مما فعله المحافظون الجدد. ليس فقط كونها تجري بين مسلمين ويدفع ثمنها ضحايا مسلمون، وإنما أيضا كونها تنثر بذور صراع مستقبلي قد يقع بين القبائل والمناطق الفيدرالية فى باكستان قد ينهي وجود الدولة ذاته. أما القضية الثالثة فترتبط بمصفوفة العلاقات والتجاذبات العربية – العربية من جهة، ونظيرتها العربية – الإقليمية من جهة أخرى. فبرغم حدوث تغيّر فى العامل الأميركي، الذي لعب دوراً مؤثراً فى تقاطعات هذه المصفوفة طيلة السنوات الثماني الماضية، إلا أن مواقف الأطراف المنخرطة فيها لم تتغير مطلقاً. وفي ضوء ما سبق، فإن فرصة أوباما فى تحقيق نقلة نوعية فيما يخص العلاقة مع العالم الإسلامي، إنما تظل محكومة بأمرين، أولهما الاستعداد العربي والإسلامي لتحمل جزء من مسؤولية إصلاح هذه العلاقة، خاصة فيما يتعلق بمراجعة مفردات الخطاب الفكري والديني تجاه الغرب بوجه عام. وثانيهما، الاستعداد للاعتراف بالمسؤولية الذاتية عن كثير من مشاكلنا وخلافاتنا الهيكيلة بعيداً عن "الشمّاعة" الأميركية. ذلك أن أوباما، بجرأته فى الاعتراف بخطأ أسلافه فى إدارة العلاقة بالعالم الإسلامي وسعيه لتصحيحه، إنما يرمي بالكرة فى "الملعب" الإسلامي، وهو بذلك يسقط إحدى الذرائع القوية فى تبرير مشاكلنا وكوارثنا الداخلية. صحيح أن التغيير الذي يطرحه أوباما، وبرغم جاذبيته، يهدف إلى تحقيق المصلحة الأميركية بالدرجة الأولى، بيد أن الطريقة التي يدعو بها أوباما لذلك تمنح هامشاً من حرية الحركة والمناورة للعرب والمسلمين ربما لم يتوفر منذ سقوط الاتحاد السوفياتي السابق. وظنّي أن أوباما لن ينتظر كثيراً كي يختبر رد الفعل العربي والإسلامي تجاه الرغبة فى تحسين العلاقة مع بلاده، وهو قد يُنهي فترة المراجعة والاختبار إذا ما ثبت عدم جدوى تصحيح مثل هذه العلاقة، وحينئذ ستصبح المصلحة وحدها، دون القيم والمبادئ، هي الموجّه الأساسي للخيارات الأميركية تجاه العرب والمسلمين. فهو بارعٌ فيها، قد يضطر أوباما إلى العودة إلى استراتيجية "التكلفة والعائد" فيما يخص قضايا الشرق الأوسط. فعلى سبيل المثال، لن ينتظر أوباما كثيراً فيما يخص الحوار مع إيران، وهو لن يرضى بأقل من قيام هذه الأخيرة بإعادة النظر في شعاراتها وخياراتها ليس فقط تجاه بلاده، وإنما تجاه حلفاءها المعتدلين. وهو لن يغامر بإغضاب إسرائيل، ما لم يتفق الفلسطينيون حول جدوى خيار التسوية السلمية. في حين لن يضحي بحلفائه فى لبنان، ما لم تعد سورية تكييف علاقاتها مع إيران وحزب الله وحماس، وهكذا فلا تغيير من دون ثمن. * كاتب مصري.