غدا المشهد المصري عالقاً بين عنصرين، الأول شارع متحفز بقواه الشابةالجديدة، يملك بتظاهراته المليونية الفعل، والثاني هو سلطة أسيرة مبادراتها البطيئة، وعجز موظفيها أو سياسييها عن تطوير الجدل أو الفعل السياسي المستوعب لمعترضيها، سواء قبل بدء الحوار الوطني أو بعد الشروع فيه، على رغم انها تعيد ترتيب أوراقها في مواجهة الثورة الشابة والمتصاعدة، التي تصر على رحيل رئيسها ورأسها الحالي. مخاوف الكثيرين تتأجج من صدام محتمل بين نظام لم يتفهم شعبه بعد، ويمشي بحركة بطيئة وغير صريحة لا تناسب تحدياته الجديدة، وثورة تصر على إسقاطه. وكذلك من مخاوف هندسة دولة وسياسة ما بعد الرحيل الاضطراري أو المحتمل. الجميع متوزع بين التغيير «الآن» وبين التغيير المنظم، وبينما انسجم مختلف الإسلاميين مع توجهاتهم ومرجعياتهم السابقة لم يكن مستوى النخب العلمانية والقوى السياسية على الدرجة نفسها من الانسجام، وبينما حضر التصلب السياسي غاب التصلب والتخوين الديني والأيديولوجي. في هذا النحو توزعت اتجاهات الإسلاميين وتباينت على هذا المشهد الحالي، وإن اختلفت في تصورها للمخارج والقرب والتماهي مع المتظاهرين أو دعوتهم للصبر حتى رحيل الرئيس في أيلول (سبتمبر)، مع إجراء إصلاحات فورية في بنية النظام، وأخذ ضمانات قوية على ذلك، أو للهدوء والخروج الآمن لمصر. جمع الإخوان المسلمون بين الاستراتيجيتين بنجاح، فقد كانوا جزءاً رئيساً من جسد التظاهرات في ميدان التحرير منذ بدايته في يوم 25 كانون الثاني (يناير). وإن لم تفعل الجماعة ذلك لكانت تحولت الى جماعة لدفن الموتى كما يقول الكاتب الإسلامي ممدوح إسماعيل. ونجح الإخوان كذلك في إزالة الريب حول توجهاتهم، فقالوا انهم شاركوا ولكن لم يقولوا إنهم يصنعون الحدث، كما أعلنوا موقفاً متجرداً ومطمئناً في حال رحيل الرئيس يقوم على عدم نيتهم ترشيح أحد منهم، وإيمانهم بالدولة المدنية ذات المرجعية الإسلامية، بما يشبه ضمانة للغرب وللفضاء السياسي المصري، كما قبلوا بالحوار الوطني وشاركوا فيه مع نائب الرئيس وسائر القوى الوطنية يوم 8 شباط (فبراير)، ثم خرج بيانهم بعدم قبولهم بنتائجه، ليكسبوا الشارع بعد أن أكدوا شرعيتهم من جسد السلطة، وهو موقف مسؤول تجاه المجتمع كما أنه مثل ذكاء استراتيجياً، ولم يكن كما تصوره البعض إعطاء شرعية للنظام، بقدر ما كان خلخلة قوية له، وهو ما يشبه مشاركتهم في الانتخابات الماضية على رغم مقاطعة كثير من القوى السياسية لها. كما انه محاولة من الإخوان لتأمين انتقال سلمي للسلطة، كما ذكر بيانهم ليلة 17 كانون الثاني الماضي. وكما كان موقف الإخوان منسجماً مع مرجعياتهم وتاريخهم، جاء موقف السلفيين كذلك، فقد وقفوا موقفاً وسطاً بين الثورة والسلطة، وإن كانوا أقرب الى الأولى. فقد أصدروا يوم 1 شباط (فبراير) بياناً تكذيبياً لما أشاعته قناة «الجزيرة» القطرية من أن الدعوة السلفية خرجت بمكبرات الصوت في محرم بك في مدينة الإسكندرية لمنع المتظاهرين من الخروج في التظاهرات. وسبق للدعوة السلفية في مصر أن أوضحت في عدد من البيانات منذ بداية التظاهرات موقفها من التغيير، لكن إلى الأفضل وليس إلى الفوضى، كما نصت بياناتها، وهي المخاوف ذاتها التي تسيطر على كثير من النخب المصرية، بل وحتى على الكثير من المتظاهرين في ميدان التحرير، في حال الصدام أو الفراغ المفاجئ. ولا يدّعي السلفيون تبني مطالب المتظاهرين، فيحدد الداعية السلفي عبدالمنعم الشحات المشهد بأن كل «فريق في طريقه الذي اختطَّه لنفسه، وقد عَلَّمَتْنا التجاربُ أنَّ استهلاكَ طاقة الإسلاميين في المِراء لا يحل الخلافَ وإنما يَزيد الشقاقَ؛ فأعرضتْ الدعوةُ عن اجترار كلامٍ طالما رَدَّدْناه»، مؤكدة أن «العلاقة بين الدعوة وأبنائِها قائمةٌ على مَرجعيَّة الدليل في الأمور الشرعية، وعلى الثقة في المشايخ في الأمور الواقعية، لا سيما تلك التي يحتاج وزنُها إلى تقديراتِ القُوَى المتصارِعة». ووجد السلفيون فعلهم ودورهم في حفظ الأمن وتكوين اللجان الشعبية في مدرسة الإسكندرية، والدعوة الى عدم الصدام، ووعظ من ينتهزون الفرص من المجرمين بأنهم يفسدون في الأرض وغير ذلك من الأمور التقليدية والفكرية. ومن جانب آخر، بدا موقف بعض السلفيين متوتراً وأبعد عن التظاهرات ومتحفظاً عن ركوب بعض النخب والقوى الأخرى لها، ودعوة الشباب للعودة وعدم التظاهر، وإعطاء فرصة للحكماء والوسطاء، وهو موقف مثله الشيخ محمد حسان والشيخ خالد عبدالله وغيرهما، ولكن أكدت بيانات السلفيين ضرورة الحرص على المرجعية الإسلامية للتشريع في كل الأحوال. وأشارت الجماعة الإسلامية المصرية التي أكدت منذ فترة خصوصية التجربة التونسية، وأن مصر ليست تونس، الى انها لا تنكر شرعية المطالب وحق التظاهر السلمي، وكتب موقع الجماعة عن وائل غنيم الذي أبكانا جميعاً، كما طورت الجماعة خطابها للبحث عن حل وسط ومخرج دستوري يضمن انتقالاً منظماً للسلطة، وكتب القيادي في الجماعة وعضو مجلس شوراها عصام بودربالة بحثاً عن سيناريو بديل يقوم على التغييرات الدستورية والخروج من اشتراط الرحيل قبل أي حوار، وهو ما يعني احتمال الصدام، وطرح سيناريو يضمن ضمانات فورية ومخارج دستورية في الفترة المتبقية من رئاسة الرئيس مبارك. وفي الحدث التاريخي الذي يجتذب العالم أجمع بلا استثناء، حضرت أدوار الكثير من المؤسسات الدينية السنية والشيعية، وكانت متوزعة كذلك على التحيز لأحد الطرفين، كما حضرت أدوار دعاة أفراد شأن الشيخ يوسف القرضاوي الذي طلب من الرئيس مبارك الرحيل «الآن» كما طالب الأميركيون في البداية، وهو ما انتقده عليه الداعية الصوفي الحبيب الجفري في حديث له الى احدى القنوات المصرية، مؤكداً احترامه لتاريخ الرجل ورافضاً تجاهله لنقد قطر التي تحتوى على قاعدة العيديد على بعد خطوات من محطة «الجزيرة»، ودعا الجميع الى التزام الحكمة والحوار للخروج الآمن بمصر التي تعني كل الأمة العربية.