بدا شعار «أسقاط النظام» و «الرحيل» بمثابة ضربتين محكمتين في ملاكمة مستمر منذ أعوام، ولم تكن أحزاب المعارضة التقليدية، ولا حتى جماعة «الإخوان المسلمين»، لتجرؤ على رفعهما مخافة الحساب العسير. فإذا ب «ثورة 25 يناير» ترفع السقف وتحدد هذين الهدفين ليغدوا على كل لسان. في مقطع موحٍ بثته قناة «العربية» واقتطف من مقابلة أجريت مع الرئيس حسني مبارك قبيل إعادة انتخابه عام 2005، قال إن الأصعب من دخول الرئاسة في مصر هو «الخروج منها». ولم يتصور أحد أنه ومصر سيواجهان هذه الصعوبة على النحو الذي تشكل من جراء «الثورة». لكنه قال أيضاً إن الرئيس لا يستطيع الاستمرار في منصبه «إذا لم يعد الشعب يريده». وكان يعني انه مستمر لأن الشعب لا يزال يريده. لكن «الرسالة» التي أطلقها الشارع وصلت بأوضح العبارات، بل وصلت مضرجة بالدم. كانت مفهومة ولو صعبة الاحتمال، ولم يعد متاحاً إخلاء الشارع وإخماد الأصوات، للتصرف وكأن «الرسالة» لم تكن أصلاً. ومع الرغبة في الخروج، لاحت الصعوبة، فإذا لم تكن الفوضى هي البديل فلا بد أن يكون دفع البلد في متاهة من التعقيدات. فجأة، أعاد الجميع التعرف الى حقيقة يعرفونها مسبقاً، لكنهم لم يسبق أن رأوها هكذا بالعين المجردة. فالنظام هو الرئيس، وكلاهما واحد. ولاح النظام كصندوق مقفل على الرئيس. فلا الخروج ممكن، ولا السقوط، ولا الرحيل. هو صندوق محمول على كثير من الأكتاف، الجيش والأمن والحزب والبرلمان والحكومة والدستور والقوانين... والشعب. كان من الطبيعي أن يتزعزع، إذاً، بفعل الزلزال الشعبي وسقوط الأمن وهزال الحزب وتزوير البرلمان فضلاً عن الحكومة المجوّفة. لم يبق له سوى الجيش والدستور. أما القوانين، أو بالأحرى القضاء، فقد أشبعت انتهاكاً وتعطيلاً. قد يكون انعدام الثقة شعبياً فاجأه، بل صدمه، لكن شريط الأعوام الأخيرة الذي مرّ أمامه، ولو سريعاً، فتح عيونه على الكم الهائل من المشاكل المتداخلة، كما الدمى الروسية التي تسكن في باطن الأكبر منها، فتكبر وتتضخم الى ما لا نهاية. وإذ لم يبق سوى الجيش والدستور، فلا تغيير ممكناً إلا عبرهما وبواسطتهما. هنا برزت الحقيقة الأخرى، فالدستور يعني النظام، والنظام يعني هو. الدستور مفصّل للشخص، يعيش معه ويموت معه، ولا يعدل إلا بإرادته، بل لا يسمح لهذا الشخص أن ينقل صلاحياته الى نائبه، وهي لا تنتقل الى رئيس البرلمان المفترض أن يحل تلقائياً محله إذا هو غاب لسبب أو لآخر. هذا هو الواقع الذي ارتسم أمام القوى السياسية خلال لقاء الحوار مع نائب الرئيس عمر سليمان الذي فهم الجميع أنه بات «الرئيس التنفيذي» ل «خطة الطريق الى التغيير» كما أعلن الرئيس. لكن، قبل ذلك، كانت خطوات ومؤشرات عدة قد أعطت فكرة عن التوجهات: تعيين النائب، استبدال حكومة أحمد شفيق بحكومة أحمد نظيف وغلبة رجال الأعمال بغلبة الاختصاصيين، وحسم ترشيح مبارك ونجله في الانتخابات المقبلة، وبدء التحقيق مع وزير الداخلية السابق، وفتح ملفات الفساد، وتبديل قيادة الحزب الحاكم. كان هناك إيحاء قوي بأن النظام في صدد الخروج من إطار الشخص، وإن كان لا يزال يحتاجه للتعديلات الدستورية، الضرورية للمضي الى المراحل التالية. وفي الحوار نفسه لم تعد حال الطوارئ خطاً أحمر، وكان «الإخوان المسلمون» جالسين الى الطاولة اعترافاً لهم بحضورهم القوي في الشارع، لكن الترخيص لهم كحزب يبقى أمراً آخر، سيترك على الأرجح لما بعد التغييرات الأساسية، ودائماً وفقاً لشرط ألا يكونوا حزباً دينياً. عندما بدأ الحوار كان المبعوث الأميركي فرانك فيزنر قد أنهى مهمته وأبلغ الإدارة في واشنطن تقييمه للوضع، بل أطلّ على شاشة في مؤتمر الأمن في ميونيخ ليقول إن «الانتقال المنظم» للسلطة في مصر يعني بقاء الرئيس مبارك في السلطة خلال المرحلة الانتقالية. ويبدو أنه أفصح عن هذا التوجه في توقيت غير مناسب، لذا سارعت واشنطن الى التبرؤ من موقفه، إذا كان يجب أن ينتظر الى ما بعد شروع عمر سليمان في حواره مع القوى السياسية، ليبدو الأمر كأنه مستخلص من ذاك الحوار. وكانت القاهرة، بضفتيها في النظام وفي ميدان التحرير، استثيرت على مدى أيام بالتصريحات الصادرة عن الإدارة الأميركية التي آثرت الغموض آملة في ألا تخسر النظام ولا الشارع، حتى أن هيلاري كلينتون نفسها اتهمت بأنها تتملق ل «الإخوان». ولوهلة بدا «الإخوان» مقبولين، بشرط أن يلعبوا اللعبة، أي أن يساهموا في إنقاذ النظام، وقد تكون لهم مكافأة، إنما من دون تعهدات ولا ضمانات. فالنظام يحتاجهم ككيان سياسي وازن، ويحتاج خصوصاً الى انسحابهم من الشارع طالما أن التغيير لن يأتي منه مهما بلغت الضغوط. الأرجح أن أركان النظام بحثوا في مختلف البدائل التي طرحها المحتجون و «لجنة الحكماء» التي وافقوا على استرشادها من دون أن يفوضوا إليها بثّه أي حلول بالنيابة عنهم. ومن أبرز تلك البدائل أن يتنحى الرئيس ويؤول الحكم الى حكومة ائتلافية انتقالية يدعمها الجيش، وأن يحل مجلس الشعب والشورى وتعكف لجنة تأسيسية على كتابة دستور جديد، وأن تتولى الحكومة تنقية القوانين مما يقيّد الحريات أو ينتهك حقوق الإنسان أو يعرقل مباشرة الحقوق السياسية. وعلى أساس هذه الآلية المركبة يمكن الدعوة الى انتخابات رئاسية وتشريعية. هذه الخطة تفترض مرحلة انتقالية طويلة، لكنها يمكن أن تؤسس لعلاقة سليمة بين الدولة والشعب، والأهم أن طموح النظام المختلف يمكن أن يتحقق عبرها، في حين أن خطة النظام الحالي لا تضمن انتخابات حرة ونزيهة بدليل التلكؤ في الموافقة على إعادة الإشراف القضائي المباشر على الانتخابات. ومن غير المؤكد أن هذه الخطة تسعى الى حكم مدني أو الى إخراج منصب الرئاسة من الاحتكار العسكري. بل من الواضح حتى الآن أنها لا تريد تجريد الحزب الوطني من امتيازه ك «حاكم». في هذا المأزق، تبدو أحزاب المعارضة التقليدية أمام خيارين: إما أن تقنع بالتنازلات التي قدمها النظام وبالتحسينات التي يريد إدخالها على قوانين اللعبة ليضمن لها كسب بعض المصالح، وإما أن تبقى على مواكبتها لبوصلة «ميدان التحرير» التي لا تزال تشير الى وجود فرصة تاريخية لتغيير جذري وحقيقي. صحيح أن لكل من الخيارين محاذيره ومغرياته، لكن التراث الطويل من عدم الثقة بالنظام لا يشجع على خذلان الشارع. فهذه الأحزاب لم تتح لها أي فرصة في الماضي للتعاطي الحر مع فئات المجتمع، ولم تختبر قدرتها على الاستقطاب في مناخ سياسي سوي، وفي ظل الحركة الاحتجاجية الراهنة ستكون أي مساومة على مقاعد برلمانية أو حتى حصص حكومية ضرباً من الانتحار السياسي. في نهاية أسبوعها الثاني كان على الثورة الشبابية أن تبلور جسماً قيادياً معروفاً ليشاركه في أي حوار. لكنها لن تحاور أو تفاوض إلا بعد سقوط النظام، كما تقول بوضوح وتصميم. وهذا موقف «الجبهة» التي يتزعمها البرادعي، ويبدو «الإخوان» أقرب إليهما. وفي هذه الحال لا يعتقد أن النظام سيقدم على صفقة مع الأحزاب الأخرى، إذ لا مصلحة له في ذلك. وهكذا ارتضى الطرفان هذه المعادلة للذهاب الى «مرحلة الصمود» التي قد تطول وقد لا يتحملها الاقتصاد، بل قد لا يتحملها النظام إذا حافظ الشارع على قدرة التظاهرات المليونية. لكنه، في الانتظار، سيواصل الإيحاء بأن خطته للتغيير تشق طريقها، وربما أقدمت على تنازلات إضافية، كرحلة علاج طويلة للرئيس في ألمانيا، أو ربما حل البرلمان، أو - لم لا - مزيد من الخطوات على طريق فك الارتباط بين «الحزب الحاكم» والدولة. ثمة حمولات كثيرة ينبغي التخلص منها لتكمل سفينة النظام إبحارها الى أول مرفأ آمن لإصلاح الأعطاب البالغة التي أصابتها. * كاتب وصحافي لبناني