لن تنتهي قريباً التداعيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية للتحركات الشعبية الاحتجاجية في مصر وتونس. ونحن، إذ لا يمكننا التقليل من خطورة ما جرى على غير صعيد، نرى أن الاقتصادات تترجم فعلاً القول الشهير: عندما تمر العاصفة لا تنكسر بل انحنِ حتى تهدأ، إذ يملك كلٌ من البلدين، بنية تحتية وموارد بشرية ومادية واقتصادية مهمة، تتيح إعادة إطلاق عجلة النمو واستيعاب آثار الأزمات. فتونس صنفها التقرير العالمي السنوي ل «منتدى دافوس الاقتصادي» حول التنافسية الاقتصادية عام 2009، في المرتبة الأولى مغاربياً وأفريقياً، والرابعة في العالم العربي. كما حصلت على المرتبة 35 في المؤشر العام للقدرة التنافسية للاقتصاد دولياً من أصل 134 دولة. واعتمد التقرير في تصنيفه، جملة من العناصر تتعلق بالمؤسسات والبنية التحتية واستقرار الاقتصاد الكلي والصحة والتعليمين الابتدائي والعالي والتكوين ونجاعة أسواق الخيرات وجدوى سوق العمل ودرجة تقنية الأسواق المالية والمهارة التكنولوجية وحجم السوق ومناخ الأعمال والتجديد. وعلى رغم تحفظ بعض الجهات أخيراً، على المعايير التي اعتُمدت باعتبارها صادرة عن جهات حكومية قد لا تكون التزمت فعلاً بالمهنية والصدقية، إلا أن تونس ودائماً وفقاً لهذا التصنيف، تتقدم في محيطها الإقليمي على دول عربية كثيرة. وكان أداؤها أفضل من دول أوروبية مثل البرتغال التي حصلت على المرتبة 43، وإيطاليا (49)، واليونان (67). أما على مستوى تطور ممارسة الأعمال فصنفت تونس الثانية أفريقياً بعد جنوب أفريقيا، والثالثة في العالم العربي بعد الإمارات والكويت وحصلت على المرتبة 40 على المستوى العالمي. أما مصر، فصنف البنك الدولي في تقرير، اقتصادها في المركز 42 من أصل 192 دولة على مستوى العالم لجهة حجم الناتج المحلي الإجمالي المحقق عام 2009 والذي بلغ 188.3 بليون دولار، أي في المركز الثالث على مستوى العالم العربي بعد السعودية. وجاءت مصر في المركز 70 (بين 133 دولة) في تقرير التنافسية الدولي لعام 2009 - 2010، لتتقدم بذلك 11 مركزاً مقارنة بالعام السابق، وذلك نتيجة للتحسن الملحوظ في البنية الأساسية والتطورات الإيجابية في كفاية سوق العمل ودرجة تطورها. وتمثلت نقاط القوة للاقتصاد المصري في حجم السوق المحلية، ما يمكنها من استغلال العناصر الاقتصادية المرتبطة بالحجم وجودة شبكات النقل. واحتلت مصر المركز الثاني على مستوى القارة الأفريقية لجهة تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر الواردة (11.5 في المئة من الاستثمار الأجنبي المباشر المتدفق إلى أفريقيا) وذلك بعد أنغولا التي شهدت زيادة كبيرة نتيجة للاستثمارات في قطاعات النفط والصناعات الاستخراجية. وتقدمت مصر بذلك على نيجيريا وجنوب أفريقيا والسودان والمغرب وتونس وليبيا والجزائر إضافة إلى كثير من الدول الأفريقية الأخرى. ومع ذلك، نقول إن التطورات السياسية في كل من مصر وتونس يجب أن تفتح عيون المسؤولين الاقتصاديين العرب على وجوب إعادة تقويم مناهج الإصلاح الاقتصادي وبرامجه في بلدانها ليلامس في صورة أوسع وأعمق، حاجات الناس ومطالبهم. ويجب أن يشمل الإصلاح الاقتصادي كل التشريعات والسياسات والإجراءات التي تساهم في تحرير الاقتصاد الوطني، والتسيير الكفؤ له وفقاً لآليات السوق، بما يمكنه من الانتعاش والازدهار، وبما يسهل تكامله مع الاقتصادات الإقليمية، واندماجه في الاقتصاد العالمي. وغني عن البيان أن هذا المفهوم للإصلاح الاقتصادي، ينطوي على حسم لكثير من الجدال والنقاشات حول هوية النظام الاقتصادي، وحول تفاصيل أساسية مثل دور الدولة، والعلاقة بينه وبين دور السوق، والبعد الاجتماعي للتنمية. ونحن نوافق على أن الأداء الحالي للاقتصادات العربية لا يواكب التحديات الواجب التصدي لها، ولا يرقى إلى الإمكانات المادية والبشرية وطاقاتها الكامنة. ويفرض قصور أداء الاقتصادات العربية في المرحلة الراهنة، وما تستدعيه متطلبات المستقبل، إجراء إصلاح اقتصادي أوسع يغير الأوضاع القائمة. وللإبطاء في تنفيذ الإصلاح الاقتصادي، تكلفة باهظة وأعباء هائلة، لن يزيدها مرور الوقت إلا سوءاً. لذلك، نرى أن تبادر الدول العربية إلى إعلان خطط واضحة وبرامج زمنية محددة للإصلاح المؤسسي والهيكلي، مع تحديد دقيق لدور الدولة يجعلها محفزة للنشاط الاقتصادي، ومحققة للبيئة الملائمة للقطاع الخاص والقطاع العام في المجالات التي تتمتع بمزايا ومؤهلات تدعم عمله فيها، مع الالتزام بخطط واضحة لإحداث تغيير جذري في الجهاز الإداري الحكومي وتقليص البيروقراطية، ورفع كفاية العمل في الجهات الحكومية التي تتعامل مع المستثمرين والمستوردين والمصدرين مثل الضرائب والجمارك وجهات إصدار التراخيص. ومطلوب كذلك إرساء قواعد الحكم الجيد للنشاط الاقتصادي مع تأكيد الشفافية والمحاسبة وتنفيذ أحكام القضاء. وأخيراً، يجب أن يأخذ الإصلاح الاقتصادي في الحسبان الحاجات الحيوية للمواطنين، وأن يجعلها أولوية له، مع ضرورة أن يتزامن ذلك مع برامج واسعة وجادة للتنمية البشرية تؤمّن للناس عملاً وحياة كريمة إضافة إلى المساهمة في البناء والتقدم. * رئيس «اتحاد المصارف العربية»