كلما عاد أستاذ جامعي ورجل أعمال ألماني صديق من جولة عربية مكثفة، يصف مندهشاً مظاهر البذخ والترف العبثية التي يراها في عواصم ومدن عربية كثيرة. وعندما عاد أحدهم أخيراً من القاهرة، قال إنه شهد فيها «ظروف حياة هندية»: فقر مدقع لا يُصدَّق من جهة، وثراء فاحش لا يخطر في بال من جهة أخرى. وإذا كان المستوى المعيشي للقسم الأكبر من المصريين أدنى بكثير من مثيله في معظم البلدان العربية الأخرى، تتسع الفوارق الاقتصادية في عموم المنطقة العربية يوماً بعد يوم بين أقلية ثرية تتراجع نسبتها من مجمل عدد السكان، وغالبية فقيرة أو محدودة الدخل ترتفع نسبتها من المجمل المذكور، بحسب شهادات كثير من الدراسات الاقتصادية الإقليمية والدولية. ولعل الجديد هنا أن هذه الظاهرة بدأت بالاتساع حتى في دول نفطية غنية. خلال العقدين الماضيين، راكمت النخب الاقتصادية العربية ثروات طائلة حسدها عليها كثير من النخب الأوروبية والآسيوية. وبصرف النظر عن الطرق غير الشرعية التي أدت دوراً بارزاً في تراكمها، فإنها جاءت أيضاً نتيجة لطفرات نفطية وانفتاح اقتصادي وتدفق استثمارات خارجية ومعدلات نمو عالية شهدها معظم الدول العربية، وراوح معدلها ما بين 5 و7 في المئة خلال معظم سنوات الفترة المذكورة. وفي إطار هذا الانفتاح، حظي القطاع الخاص بدور متزايد من خلال السماح له بالنشاط في كل القطاعات الاقتصادية، بعدما كان هذا الدور محظوراً عليه في قطاعات إستراتيجية، كالبنية التحتية. غير أن المشكلة تكمن في بقاء ثمار النمو والثروات التي تراكمت في أيدي عدد محدود للغاية من نخب رجال الأعمال والسياسيين المتحالفين معهم، كما أنها لم تؤدِّ دوراً كبيراً حاسماً في إيجاد فرص عمل لليد العاملة المحلية الشابة التي تتزايد سنة بعد أخرى، في وقت تراجع فيه دور الدولة على صعيد تشغيل هذه اليد العاملة في إطار خطط تقشفية مقارنة بهذا الدور في عصر الطفرة النفطية خلال سبعينات القرن العشرين. وزاد في الطين بلة، تهريب قسم كبير من هذه الثروات إلى الخارج، وتهرّب نخب غنية، بفضل تحالفاتها مع نخب سياسية ورشوتها لها، من التزاماتها الضريبية تجاه الدولة في شكل قلّص من قدرتها على الإنفاق العام ومحاربة البطالة. وهكذا تملّصت النخب الاقتصادية العربية من مسؤولياتها الاقتصادية والاجتماعية تجاه الدولة وسوق العمل، ما أدى إلى ارتفاع نسبة البطالة والفقر في صفوف الشباب الذين يشكلون أكثر من 50 في المئة من سكان الدول العربية بمعدلات مخيفة تقدر نسبتها الفعلية ما بين 20 و25 في المئة. وأجج الارتفاع المستمر في معدلات البطالة وفي أسعار المواد الاستهلاكية اليومية، وانسداد آفاق المستقبل لغالبية أبناء الدول العربية، في مقابل غنى فاحش وفاضح لأقلية مستأثرة بالثروة والسلطة، روح الغضب التي انفجرت في تونس ثورة شعبية مطالبة بلقمة العيش والحرية، قبل أن ينتقل لهيبها إلى مصر ودول عربية أخرى. والحق يُقال إن تملص النخب الاقتصادية العربية من مسؤولياتها الاقتصادية والاجتماعية، يتحمل جزءاً كبيراً من المسؤولية عن الوضع المعيشي المزري، والغضب الشعبي الذي يعيشه الشارع العربي. أثبتت ثورة تونس وتداعياتها في الدول العربية، أن الاستقرار الحيوي لبيئة الأعمال في العالم العربي لا يمكن ضمانه من خلال جيوش الأمن والقمع الجرارة التي قامت أنظمة الحكم العربية بتنظيمها وتجهيزها على حساب لقمة عيش سكانها، بل في شكل أساس عبر شبكات أمان اقتصادية واجتماعية وتأمين التعليم ومستوى العيش الكريم للناس في إطار الحريات السياسية وحرية الرأي. ومما يعنيه ذلك، أن النخب الاقتصادية العربية مدعوة أكثر من أي وقت مضى إلى الوفاء بالتزاماتها الاجتماعية، واستثمار أموالها في شكل مباشر في دولها، بدلاً من تهريب قسم كبير منها إلى الخارج، من أجل مساهمة الدولة في شكل أكثر فاعلية في تأهيل الشباب وإيجاد فرص عمل لهم. عدا ذلك سيبقى الاستقرار السياسي والاجتماعي مجرد وهم. وإذا غاب هذا الاستقرار ستكون الثروات معرضة لمخاطر لضياع يهدد مستقبل المنطقة العربية ونخبها السياسية والاقتصادية. * كاتب متخصص في الشؤون الاقتصادية - برلين