في أواسط تشرين الثاني (نوفمبر) 1787، وبعد أن قدم موزارت وبنجاح كبير، العروض الأولى لأوبراه «دون جيوفاني» في مدينة براغ، قفل عائداً الى فيينا، في وقت كانت العاصمة النمسوية تدفن موسيقيها الكبير غلوك، الذي كان معروفاً بكونه «المؤلف الموسيقي للديوان الإمبريالي والملكي»، أكثر مما كان معروفاً بأعماله العظيمة. وإذ خلا ذلك المنصب الرسمي، بوفاة غلوك، ارتأى الإمبراطور جوزيف الثاني أن الموسيقي الشاب موزارت، العائد مظفراً من براغ، والذي بدأت موسيقى أوبراه الجديدة تصبح على كل شفة ولسان، هو الأجدر من أي موسيقي نمسوي آخر بحمل اللقب وشغل المنصب. وهكذا، في السابع من كانون الأول (ديسمبر) من ذلك العام، حقق موزارت واحداً من أحلام... أمه، على الأقل، غير ان المشكلة كمنت في المرتب الذي أعطيه (800 فلورين في السنة في مقابل 2000 فلورين كان يحصل عليها غلوك) وهذا ما عبر عنه موزارت غاضباً في ملاحظة دوّنها وقال فيها: «ان هذا المبلغ أكبر كثيراً من الخدمات التي أقدمها للديوان، لكنه أقل كثيراً من تلك التي يمكنني، في الحقيقة، تقديمها». ذلك أن ما طلب من موزارت في مقابل ذلك المبلغ لم يكن لا أوبرا ولا سيمفونية ولا كونشرتو، ولا حتى قداديس أو رباعيات وترية، بل مجرد قطع راقصة لتعزف خلال الكرنفالات التي تقام في القصر. ورضخ موزارت للأمر الواقع ليؤلف، للقصر، وخلال فترة لا تزيد على أربعة أعوام (1788 - 1791) أكثر من مئة قطعة، من بينها رقصات ألمانية و «مينويات» وأغان راقصة وما شابه، أي أكثر من نصف التراث الذي خلفه في هذا الإطار والذي انتجه طوال حياته. ومع هذا كانت من بين هذه القطع أعمال رائعة تتجاوز كثيراً الظروف التي كتبت في إطارها. وينطبق هذا في شكل خاص على تلك القطع التي اشتهرت باسم «6 رقصات المانية» والتي كتبها موزارت معاً في يوم واحد هو 21 شباط (فبراير) 1789. والحال أن تلك الرقصات أتت لتفسّر وتطور، وتخفّف حتى من ثقل، قطعة موسيقية رائعة كان موزارت كتبها قبل ذلك بعام ونصف عام، أي خلال اشتغاله على أوبرا «دون جيوفاني». وتعتبر الى اليوم أشهر عمل بين أعماله، بل ربما كانت أيضاً - حتى بالنسبة الى من يعرفون لحنها لكنهم قد لا يعرفون اسمها أو اسم كاتبها - أشهر قطعة منفردة في تاريخ الموسيقى الغربية، ونعني بذلك «موسيقى الليل الصغيرة»، التي يرى كثر من الباحثين قرابة مباشرة بينها وبين «6 رقصات المانية». كانت «موسيقى الليل الصغيرة» آخر قطعة من نوع السيرينادا كتبها موتسارت في حياته. وهي كانت في شكلها الأول، الذي لم يكتمل بعد ذلك أبداً، مؤلفة من خمس حركات، من بينها رقصة «مينويه تحتل القم اثنين في تكوين القطعة»، لكن هذه الحركة فقدت نهائياً فور رحيل موزارت لتبقى القطعة مؤلفة من أربع حركات، وتقدم اليوم بالنسبة الى العارفين، على شكل سيمفونية صغيرة للآلات الوترية (حيث يعزفها عادة عدد محدود من الوتريات وعلى رأسها آلات الكمان التي تلعب الدور الأساسي في أداء اللازمة والموضوعات الطاغية، حتى وإن أعاد موسيقيون في القرن العشرين توزيعها مراراً وتكراراً مع آلات مختلفة، وآلات نفخ أحياناً في تجارب لم تضف شيئاً الى ما أسّسه موتسارت نفسه). إذاً، فإن ما بقي من «موسيقى الليل الصغيرة» كما كتبها موزارت، هو حركات أربع يستغرق عزفها نحو 18 دقيقة، وتتوزع على الشكل التالي تباعاً: آليغرو - رومانزي (اندانتي) - مينويتو (اليغريتو) - وأخيراً روندو (اليغرو) وهي تحمل الرقم KVS25 بين أعمال موتسارت، والرقم 13 بين السيرينادا التي كتبها. وإذا كانت هذه القطعة ترتبط، موضوعياً، ب «6 رقصات المانية» فإنها من حيث الشكل والأسلوب ترتبط بقطعة أخرى كان موزارت كتبها قبلها بشهرين، لكنها ظلت أقل منها شهرة، وهي تحمل عنوان «مزحة موسيقية» وتعتبر الأخيرة بين قطعه الترفيهية (ديفرتيمنتي). وسيقال لاحقاً ان هذه القطعة الأخيرة كتبها موزارت حين أحس بالحاجة الماسة الى صوغ عمل كاريكاتوري يسخر فيه من بعض أساطين الموسيقى الذين كانوا رائجين وناجحين بغير حق في زمنه (كما فعل فاغنر لاحقاً في «أساطين الغناء»). وهاتان القطعتان («موسيقى الليل» و «المزحة») يعتبرهما اختصاصيو موزارت توأمين. وهي جميعاً، مع الرقصات الألمانية تعتبر ثأر موزارت من تلك الوضعية الرسمية التي جعلته مؤلفاً للديوان الامبراطوري في مقابل مبلغ زهيد، ومن دون أن يكلف هناك بأعمال كبيرة من تلك التي قد يودّ أي موسيقي أن يجد من يموّل له تأليفها. المهم، ان موزارت كتب «موسيقى الليل الصغيرة» على رغم كل شيء، وخلدت هذه القطعة، بل تفوقت في خلودها على مجمل أعماله الكبرى بما فيها سيمفونياته الأخيرة (من الثامنة والثلاثين حتى الحادية والأربعين). لكن عملاً واحداً له ظل متفوقاً عليها، - وهو كتب بعدها على أي حال، ومات موزارت من دون إنجازه كلياً - وهو «الجنّاز» الشهير الذي يعتبر من أعظم المؤلفات الموسيقية وأكثرها سمواً في تاريخ هذا الفن. والحال أنه حسبنا أن نقارن بين «موسيقى الليل» و «الجنّاز» اللذين كتبا بفارق زمني بسيط، وخلال أعوام موزارت الأخيرة حتى ندرك ذلك التنوع الهائل في عبقرية هذا الفنان، الذي كان يعرف كيف ينتقل، في كل سهولة، بين ما هو أرضي وترفيهي وما هو سماوي متجاوز... ومع هذا علينا أن نقرّ بأن هذا التفاوت نفسه، بين عالمين يبدوان غير ملتقيين، يمكننا العثور عليه حتى داخل عمل شديد الشعبية والبساطة (الظاهرية) مثل «موسيقى الليل الصغيرة». إذ منذ الافتتاحية التي تبدأ بها الحركة الأولى بنوطاتها الأربع، نعرف ان موزارت على أهبة أن يدخلنا في عوالمه العجيبة، ولا يخيب ظننا إذ سرعان ما نجد أنفسنا داخل الموضوعة الأولى ذات التوازن الهائل بين أجزائها، التوازن الذي نفاجأ بأنه قد يبدو أكاديمياً لولا انه يقودنا بسرعة الى الموضوعة الثانية (جوهرة العمل ككل، كما يقول الخبراء)، فهذه الموضوعة إذ تطلع من مقام ري كبير، تبدأ بمدخل إيقاعي مثير سرعان ما يختفي وسط وشوشة عريضة هادئة تؤديها آلات الكمان في شكل يجعل المستمع يشعر وكأنه دخل عالماً من نور فجائي تعلوه ضحكات طفولية. ثم تتبادل هذه الوشوشة المكان مع ايقاعية النغمات الأولى، حتى يتوحد الاثنان في نغم ذي مذاق شعبي أليف. وهكذا حتى تنتهي حركة «الآليغرو» لتبدأ الحركة الثانية بلحن يبدو شبيهاً بحركة نائم يمشي خلال نومه... لكن اللحن سرعان ما يتسارع ليمحو صفحة الحلم الأولى تماماً وندخل مع موزارت في بعد تراجيدي واضح تملأه معاناة... لكن هذه، وبحذق موزارتي رائع، تنتهي فجأة لنستعيد عالم الحلم الليلي، الذي يقودنا مباشرة الى الحركة الثالثة التي تنفرد بها رقصة «مينويه» قصيرة جداً، حيث انها لا تتألف إلا من جملتين موسيقيتين تكمن أهميتهما، على تفاوتهما، في كونهما تقوداننا الى الأرابيسك النهائي الذي يؤلف الحركة الأخيرة. وهذا الأرابيسك الأخير على تنوعه الساحر يبدو مخادعاً، إذ انه في حقيقته ليس مؤلفاً إلا من موضوعة واحدة، تقود حركة «الروندو» حتى النهاية معطية انطباع التنوع. والحال أن هذا التنوع نفسه، مع إلحاح الموضوع الواحد، هو ما فتن الناس كثيراً في هذه القطعة التي كتبها (وولفغانغ أماديوس) موزارت وهو في الثانية والثلاثين من عمره الذي توقف عند سن الخامسة والثلاثين. ولد موزارت عام 1756 في سالزبورغ، ومات (مسموماً؟ أو بالوباء المنتشر؟) عام 1791 في فيينا. وعرف انه كتب بعض أجمل أعماله وهو بعد في سن المراهقة، كتب بسرعة وبقوة كما لو انه كان يعلم انه سوف يموت باكراً، فكان فريد نوعه طوال حياته. وهو لا يزال حتى اليوم يعتبر، بأعماله التي تعد بالمئات، وبتنوع هذه الأعمال وتأثيرها، واحداً من أكبر الموسيقيين الذين عرفهم فن الموسيقى على طول زمانه. وما «موسيقى الليل الصغيرة» سوى شاهد بسيط وأليف على انجاز استثنائي. [email protected]