لم يكن التاريخ ليسجّل يوماً عن شعب قال شكراً لرئيس مخلوع لأنه جعله يثور ثورة لم تفاجئ الرئيس والعالم كلّه فحسب, بل فاجأت حتى من أطلق أولى شراراتها. انه الشاب التونسي محمد البوعزيزي الذي لم يكن ليتصوّر يوماً أن قلب مساعد شرطي البلدية لعربته سيقلب الأوضاع برمّتها ويعيد ترتيب أجندة السياسة ومراتب أصحاب القرار في تونس. أجبرت عربة البوعزيزي لبيع الخضار رئيس البلاد زين العابدين بن علي على الفرار بعد أكثر من ثلاثة عقود من الاستبداد والقمع، ولم تفلح عبارات الوعيد في تكميم أفواه شعب استجاب له القدر. وانطلقت الرصاصات الأولى لتسقط عشرات الشهداء والجرحى الذين لم يخرجوا إلى الشارع للمطالبة بالتشغيل والتوزيع العادل للثروات فحسب، بل للمطالبة بالحرية واستعادة الكرامة المسلوبة. انتفاضة الشعب التونسي التي رفعت شعار العدالة والكرامة والحرية انتجت حراكاً سياسياً وإعلامياً انخرطت فيه كل الأطياف السياسية والاجتماعية والاقتصادية، حراك لم يعرف له الشعب التونسي ولا الشعوب العربية مثيلاً منذ السنوات الأولى للاستقلال، خصوصاً أن ثورة الاتصالات لعبت دوراً بارزاً في تنظيم التحركات ورص الصفوف. وانتشرت الاحتجاجات في كامل جهات البلاد فأُعلنت حال الطوارئ، لكن شباب الثورة قدموا من كل المناطق التونسية ليرابطوا في العاصمة أمام مقر الوزارة الأولى بعد فرار الرئيس بن علي رافضين بقاء رموز الظلم والاستبداد في الحكومة الجديدة. وإذ شهدت الحكومة خلال أيام قليلة استقالات كثيرة تحت وطأة ضغط شعبي لم يهدأ وأصوات كرهت الصمت فلم تسكت، يبدو شعار "شكراً للدكتاتور" الذي يتحدث به كثيرون معبراً عن لحظة حاسمة في تاريخ البلاد جعلت أحداث تونس درساً للشعوب العربية وحكامها. وسجل العديد من العواصم العربية والدولية تظاهرات تضامنية مع ثورة الياسمين كانت أسرع من ردود فعل قادة بلدانها التي - وإن تأخرت - فقد اعترفت بأحقية التونسيين في تقرير مصيرهم واختيار الطريقة الأمثل للانتقال الديموقراطي. وعرف ذلك الانتقال أول وجوهه مع العزم على محاسبة كل من تآمر على البلاد ونهب ثرواتها فجاء قرار تشكيل اللجان الوطنية الثلاث المكلفة الإصلاح السياسي وتقصي الحقائق في قضايا الفساد والرشوة وفي التجاوزات المسجلة في الفترة الأخيرة. عمل اللجان الذي من المنتظر أن يرجع الحقوق لأصحابها ويكشف كل التجاوزات والاختراقات سبقه قرار من حكومة الوحدة الوطنية يقضي بإطلاق بطاقات جلب دولية ضد الرئيس السابق وزوجته وعدد من أقاربهما الفارين ومسؤولين سابقين في مختلف هياكل حكومة حزب التجمع الدستوري الحاكم سابقاً. ووجه قرار الحكومة الموقتة اتهامات شملت التآمر على الأمن الداخلي وارتكاب الاعتداء المقصود منه حمل السكان على مهاجمة بعضهم بعضاً باستعمال السلاح واقتناء أشياء حسية منقولة وعقارية موجودة في الخارج ووضعها تحت نظام آخر ومسك وتصدير عملة أجنبية بصفة غير قانونية إلى جانب محاولة التصدير من دون إعلام من البنك المركزي وإدخال أسلحة وذخيرة للبلاد وحملها ومسكها والاتجار بها من دون رخصة. وفي انتظار أن يقول القضاء كلمته بدأت الحياة تعود إلى طبيعتها في تونس وتقلصت كل إجراءات الطوارئ ، فبعد الاستجابة إلى غالبية المطالب الشعبية يبقى التعاون من أجل تجسيدها أمراً أساسياً حتى يجني الشعب التونسي ثمار ثورته ويجدّد شكره لدكتاتور غذى لدى كل التونسيين والتونسيات الشعور بأن ثورتهم لن تزول.