ثمة أزمة، وهي أزمة كبيرة جداً، هل هذه المقولة تحتاج إلى نقاش؟ هل نحن متفقون أم مختلفون على وجود الأزمة أو نفيها؟ في المجالس ثمة إجماع على وجود الأزمة وخطورتها، ولكن لا يجري الحديث أبداً عنها في العلن، سواء في وسائل الإعلام أو في مؤسسات الحكم والتشريع والإدارة، وكأننا نعتقد أن تجاهل الأزمة أو عدم الاعتراف بها يلغيها، وهذه أزمة أكبر من الأزمة الأولى، فالحالة تشبه المريض بالسكري ولكنه يرفض العلاج لعدم اعترافه بوجود المرض، بل ويصر على التهام كميات زائدة من السكر، والأزمة الثالثة التي لا تقل خطورة عدم التشخيص الصحيح للأزمة عند الاعتراف بها، ليس بسبب نقص المعرفة، ولكن لرغبة مسبقة وإصرار على أن تكون الأزمة كما نرغب بتكييفها وليس كما هي، وأخشى أنه حتى نعترف بوجود الأزمة، ونراها كما هي بالفعل، ثم نسعى إلى حلها، فإن وقتاً طويلاً سيمر، وربما يفوت الأوان، أو يكون الحل أكثر كلفة وألماً. البطالة ونقص الموارد وارتفاع الأسعار تشكل الجزء الظاهر من جبل الأزمة، ولكن جذورها الحقيقية وكتلتها الرئيسة هي أزمة العدالة والثقة ومدى قناعة المواطنين بعدد كبير من الوزراء والمسؤولين وأهليتهم وأحقيتهم في المواقع التي يشغلونها، وعدالة التشريعات والعمليات والسياسات المتعلقة بالضرائب وتوزيع الموارد والنفقات العامة، ومستوى العدالة والتنافس والمساواة في الفرص، سواء في الأعمال والوظائف وفي التنافس على الموارد والعطاءات والأعمال وتوريد الخدمات والسلع وتسويقها، وفي مستوى جودة ونوعية الخدمات العامة في التعليم والصحة والرعاية والثقافة والفنون، وفي التوازن بين القطاع الخاص والسلطة التنفيذية والمجتمعات، والمسؤولية الاجتماعية للقطاع الخاص، وفي المحصلة، فإن الإصلاح هو تصحيح العلاقة بين الموارد والنظام الاقتصادي والنظام السياسي والنظام الاجتماعي والثقافي على النحو الذي يجعلها مرتبطة ببعضها ارتباطاً صحيحاً، بحيث تتشكل المجتمعات والثقافات على النحو الذي يزيد الموارد ويجددها ليواصل من جديد إصلاح الانظمة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية،... وهكذا يتواصل الارتقاء بالموارد متبوعاً بارتقاء متواصل بمستوى الحياة والمنظومة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. ولكن أحداً لا يعرف ما الصواب وما الطريق الصحيح للتقدم والإصلاح، ولذلك أنشئت الأمم والمجتمعات الديموقراطية لأنها لا تعرف، ولأنها لا تعرف احتكمت الى صناديق الانتخابات والتصويت لتتبع الأغلبية، ليس لأن موقف الأغلبية ورأيها هو الصواب، ولكن لأن اختيار موقف الأغلبية مجرد آلية للاحتكام وإدارة الخلاف، ما يعني بالضرورة أن جميع الآراء والمواقف الأخرى تحمل الفرصة نفسها في الاتباع والاحترام، ولا يغير من الحكم على صوابها أو فرصتها انها لا تتمتع بتأييد الأغلبية، لأننا ببساطة لا نعرف أو لا نملك اليقين الذي يقودنا إلى الصواب، وحده المستبد والمتسلط يملك اليقين والثقة المطلقة وحتى النسبية أيضاً. وهذا الجهل/ عدم اليقين أيضاً سر الجمال، وهو بذلك أحد المصادر الرئيسة (الحق والخير والجمال) للفلسفات والحكم والأعمال والعلاقات المجتمعات والأفراد، فالقيم المستمدة من الجمال (أو هي الجمال نفسه)، وفي منحها «القيمة» للأفعال والأشياء تقوم على البحث الدائم عن الأفضل/ الأجمل والتمييز المتواصل بين القبيح والحسن، ولولا «الجهل» بطبيعة الحال لما ارتقينا لما هو أجمل/ أفضل، وما أدركنا القبيح وما هو أقبح. وربما تسمح هذه المقولة بملاحظة أزمة القيم والأفكار لدى أمم ومجتمعات «اليقين»، بل لا يعود ثمة قيم ابتداء، تصبح القيم هي الأخلاق والدين والواجب، أو الوصاية المطلقة والأبدية للحكام ورجال الدين والمؤسسات، ولا يعود مجال لقيم تحاكم الأفعال والمنتجات والأفكار والسلع إلى الجمال، ولكن لا يكون ثمة إلا خطأ وصواب، حرام وحلال، حق وباطل، خير وشر، وتكتسب كلها ثباتاً دائماً أبدياً لا يتغير ولا يتبدل إلا بفعل ما يدخل العقول والمواقف والأفكار عنوة، مثل خزان مغلق لا يقدر على التسرب إليه إلا الغبار والصدأ والصخب، ولا يمكن تغييرها إلا بالفوضى والتضحيات العظيمة والتكاليف الباهظة، ولا نعلم بعد ذلك إن كنا جنينا شيئاً يستحق ثمناً لهذه التضحيات الكبرى؟ * كاتب أردني