حينما تُكتب سيرة الأماكن أو المدن بلغة السرد، وحينما نتعرف على شخوص وأحداث ونتلمس آثار الزمن على جدران الأماكن، ومعالم الدروب والطرقات، ساعتها نتساءل لماذا لم يكتب المؤلف على هذا الكتاب مُسمى رواية أو نص سردي؟ هذا ما تبادر لذهني وأنا أقرأ كتاب «مدينة على المتوسط» للباحث والأكاديمي خالد زيادة. سرد مدهش يقبض على الزمان والمكان في آن واحد ليؤرخ لسيرة مدينة تُسمى طرابلس، تقع على المتوسط. هذا ما قدمه زيادة في ثلاثيته الصادرة حديثاً عن «دار الشروق» المصرية. كتاب يجمع بين ملامح السيرة الذاتية والسرد وسيرة الأمكنة عرف كيف يفيد فيه الباحث من معارف شتى مثل الأنثروبولوجيا والتاريخ والسوسيولوجيا والسرد الروائي. فهو يرصد من خلال لغته الكثيفة والأدبية التحولات التي مرت بالمدينة في فترات الخمسينات والستينات من القرن الماضي، إنها سيرة مدينة في فاصل زمي محدد، يقوم طرفها على المتوسط الشرقي بينما يمعن بعضها الآخر في تاريخ ودروب ضيقة تواجه كل ما حملته بدايات القرن من نماذج تتبادلها شواطئ المتوسط. «ثمة مدينة تقع على المتوسط الشرقي كانت تتلقى، بصمت حيناً وبدوي عنيف أحياناً أخرى آثار التجاذبات التي جابهت ما بين أطراف المتوسط. كنا صغاراً آنذاك حين لجأ أهل المدينة وكأنهم ينتقلون على عجل من مدينتهم القديمة صوب الجهة الغربية التي امتد إليها العمران وسط بساتين الليمون التي كانت تحيط بالمدينة». هكذا تنثال ذاكرة الكاتب ليصور لنا الخراب الذي أصاب المدينة القديمة، والتدمير الذي طاول عمرانها حال الانتقال التدريجي إلى المدينةالجديدة. يوظف الكاتب مقدرته التحليلية ومستفيداً من مناهج البحث السوسيولوجي والانثربولوجي ليرصد التغيرات التي طاولت المدينة من خلال علاقته الخاصة بتلك المعالم والأمكنة التي شكلت عالم طفولته وصباه. قسم المؤلف ثلاثيته إلى ثلاثة أقسام تحت ثلاثة عناوين دالة تشير بشكل لافت إلى ما يبغي توصيله من معانِ: القسم الأول أعطاه «يوم الجمعة. يوم الأحد». يقدم فيه سيرة عمرانية للمدينة القديمة، ويغزل بلغة أدبية راقية العلاقات الإنسانية بين المسيحيين والمسلمين فيها، وكأن اختياره للتسمية «يوم الجمعة يوم الأحد» قصد به الإحالة إلى رمزية تلك العلاقة بين طرفي ساكني المدينة، وبالتالي ساكني لبنان في العموم، فقد عاش الكاتب جزءاً من حياته في بيئة مختلطة في مدينته، مع أصدقائه من دون تمييز في الانتماء الديني أو الطائفي. كما يرصد الكاتب التغيرات السوسيوثقافية في حقبة الستينات من القرن الماضي التي شهد خلالها لبنان والعالم العربي كله ازدهاراً مادياً وأدبياً وتحرراً في الأفكار، لكن من المؤسف أنها بقيت فريدة كحقبة هي في الوقت نفسه فريدة في التاريخ الإنساني. ومما يرصد الكاتب في هذا الجزء مقارنات ومفارقات بين تفاصيل حياة ساكني المدينة القديمة، وتفاصيل أخرى مقابلها للمدينة الحديثة التي أنشئت بالقرب منها. يقول واصفاً ليل المدينتين: «الليل أشبه بقدر يومي، أو طوفان للظلام لا يمكن تفاديه كأنه جيش عدو نستعين عليه بالحراس الذين يحملون الهراوات. ويبدأون تجوالهم مع هبوط الظلام. كان هؤلاء يحرسون الحارات والأسواق ويدققون في أقفال الدكاكين، ويتفرسون في وجوه المارة، يواصلون بذلك طقوساً مغرقة في القدم، فهم ورثة العسس في أزمنة المدينة القديمة. كانت ليالي المدينة التقليدية أشبه بلياليها قبل مئات السنين». في المقابل يصف ليل الشق الآخر من المدينة، الشق الحديث الذي عمد إلى التحديث ليس في العمران فقط، بل في سلوكيات الناس أيضاً، بقوله: «كان ثمة ليل آخر ما كنا لندركه في تلك الفترة من طفولتنا وصبانا شق طريقه ونشر نموذجه في الحيز الحديث من المدينة، ليل مضاء، لا تساوره مخاوفنا في العتمة، ولا ترتاده العفاريت التي تخيفنا. واقع الأمر أن آباءنا لم ينغمسوا في الليل الانتدابي الذي أقام في المدينة الكولونيالية. كان الليل آنذاك يفصل بين نمطين من العيش: عيش الفرنسيين ومن شاركهم نماذجهم، وعيش الأهالي في مدينتهم التقليدية». من خلال «الفلاش باك» يستدعي الكاتب وجهة نظر الناس في المدينة القديمة أو ما أطلق عليهم مُسمّى «الأهالي»، لشدة تجنبهم لليل الجزء الحديث من المدينة أو الجزء الذي سماه الكاتب «الانتدابي»، ويقصد به الذي تمركز فيه الفرنسيون حيث تجدهم يخلطون بين الواقع والخيال في حديثهم عن الآخر. يقول: «لقد تمركز الليل الانتدابي في وسط المدينة الحديثة حيث الأوتيلات والبارات والسهر المختلط، وخلط الأهالي بين الواقع والخيال في حديثهم عن الليل الآخر الذي يقوم على بعد أمتار من ليلهم». في حديثه عن العلاقات التي كانت تجمع بين المسلمين والمسيحيين لا يلجأ الكاتب إلى الشعارات أو اللغة الخطابية العالية النبرة ليؤكد عمق العلاقات الأخوية التي تربط بين مكونين من المكونات الثقافية في لبنان عموماً والمدينة المتوسطية خصوصاً، لكنه يلجأ إلى التفاصيل الإنسانية البسيطة ليوضح تلك العلاقة: «في تجوالنا المثابر في أحياء المدينة وشوارعها جعلنا من شارع الكنائس الذي هو «حارة النصارى» القديمة ميدان تسكعنا في ربيع الصف الثاني المتوسط. كنا شلة مختلطة من مسلمين ومسيحيين، أبناء مدينة وأبناء ريف ولم نكن نأبه لتلك التصنيفات». يتوزع القسم الأول بين نقاط ضوء رغب الكاتب أن يسلطها على سيرة الإنسان في المكان، فنرى إضافة إلى الليل والمسلم والمسيحي، أوقات اللهو والبحر المتوسط والأيام التي مضت والمدينة والدولة، ثم يختم القسم الأول بالعبور إلى الستينات، هو عبور «زمكاني»، فثمة آثار للزمان على المكان واضحة وجلية، فالمدينة لم تعبر إلى زمن الستينات فقط، بل عبرت إلى العمران الجديد والحداثة الأوروبية التي بدأت مع الانتداب والإرساليات وتواجد الفرنسيين واليونانيين والأرمن وغيرهم من الأوروبيين. في الجزء الثاني الذي أعطاه مُسمّى «حارات الأهل» يواصل الكاتب سرد فصول من سيرة المدينة، تأخذ عبره الأمكنة في انتقالها من حقبة إلى أخرى بعداً تاريخيّاً واجتماعيّاً مختلفاً. ينتقل الكاتب بقارئه من الساحة العامّة، إلى المقهى العثماني، إلى حارة النصارى، إلى المنطقة الفرنسية، ثم إلى الهضبة والسوق وجادات اللهو. يجتاز المدينة بطولها وعرضها، قديمها وحديثها، بما فيها من وقائع وأحداث ليست إلا خلفية لقراءة أنثروبولوجية للمدينة وناسها. يختار ثمانية أمكنة شهدت بدايات تفتحه واندماجه في بيئته المتعددة التوجهات، الثرية بالثقافات المختلفة، وكأن تلك الاجتيازات والأماكن ليست سوى «كلمات في نص المدينة التي توزع الوظائف وتبدلها وتعيد صياغتها، كأنها مفردات وعبارات لا تستقر كتابتها أبداً». في القسم الثالث من الثلاثية الذي أسماه «بوابات المدينة» يتابع زيادة سرد الحنين المؤثر، متبنياً لغة الذاكرة الشفاف، فقد قسم ذلك القسم إلى عشرة أجزاء أو فصول أعطى لها عناوين فرعية: مكتبة الجمعية الأهلية، وغرفة المحفوظات في المحكمة، ومنزل الأستاذ قرب المعهد، وعبر السور والبوابات، وزيارة لمنزل في الساحة العامة ودكان الكتب القديمة، والسكن في نزل الأمراء، ولقاءات شاحبة، والشجرة أمام المقهى، ثم أخيراً الحفل واليافطات، وفي كل منها نتلمس ذلك الحنين وتفاصيل الماضي والحاضر. يُوكَل إلى الباحث أن يشترك مع فريق عمل في التأريخ للمدينة فينتهز الفرصة في عرض لنا تاريخ المدينة عبر شخوصها وأحداثها ووقائعها الشهيرة من أجل أن يعد مؤلفاً لهذه المدينة عبر سيرتها الثقافية والتاريخية. يرد ذكر الأعلام والشخصيات التي انبنى على أيديهم ذلك التاريخ. ويجهز الباحث مادته البحثية استعداداً لكتابة هذا التاريخ. ينهي كتابه بقرار مؤجل لكتابة تاريخ مدينته بقوله: «كان الظلام يلف أرجاء المدينة حين رجعت إلى منزلي سرت في الشارع الذي ينيره مصباح وحيد، وسمعت وقع أقدامي. وحين دخلت المنزل أنرت الضوء، فبدت لي الأوراق المتراكمة فوق الطاولة، قلت في نفسي: سأتركها حيث هي، لا بد أن أعود إليها في وقت لاحق». إضافة إلى ما قدمته الثلاثية من بحث أنثروبولوجي وسوسيولوجي وتاريخي لتلك المدينة التي تقع شرق المتوسط إلا أن خالد زيادة عالج قضية تبدو مهمة وشائكة هي قضية العلاقة بين المسلمين والمسيحيين، وأهمية أن يعي اللبنانيون عبر مثل هذه الكتابات أن تاريخهم واحد وتفاصيلهم واحدة فكل التغيرات التي طالت حياتهم ونُقِشت في ذاكرة أبنائهم لم تفرق بين مسلم أو مسيحي، الجميع عاشوا الأحداث ذاتها، وعانوا المصير نفسه.