السيرينات هي مخلوقات خرافية إغريقية، تشبه جنية البحر، لكنها تتميز بصوتها العذب الذي يجذب البحارة الى عالم التيه، إنها الموازية للنداهة في الفولكلور المصري. وقد قام أوديسيوس بوضع الشمع في أذنيه كيلا يسمع الصوت وطلب من البحارة أن يربطوه إلي صاري السفينة، لكنهم اضطروا في النهاية إلي فك وثاقه من شدة صراخه واستعطافه إياهم. السيرينات هن علامة الخطر، التحدي الذي يواجه أبطال الملاحم، وهن الإغراء الكائن دائماً أمام البطل إذ إن الخضوع للصوت يعني انقطاع المسار البطولي. تنقلب هذه المنظومة تمامًا عند سحر الموجي، فتفتتح الكاتبة المصرية روايتها «مسك التل» (دار الشروق، 2017) بمجموعة من النساء يسكنّ بيت السيرينات، وهو يقوم على تل في مكان ناء في وسط الطبيعة. وهن لسن أي نساء، بل بطلات أشهر الروايات العربية والعالمية. وكأنهن يُكملن الحياة التي انقطعت بانتهاء الرواية التي ظهرن فيها. بهذا يمسك القارئ بأول الخيط الذي يمنح هؤلاء البطلات حياة ثانية في تحد واضح لإرادة الكاتب الأصلي. هي مواجهة مباشرة بين هؤلاء البطلات وبين الكتاب والكاتبات الذين رسموا حياتهن، فكلهن يعشن في قلق السؤال وإعادة قراءة للماضي، بل إنهن يعرفن عبر قراءة قصصهن في المكتبة ما كان خافياً عليهن. وعبر هذه المعرفة تكتسب هؤلاء البطلات القدرة على بناء حياة جديدة، أو بالأحرى حياة ثانية تكون فيها الغلبة لصوتهن وليس لصوت من كتبهن. ولذلك يبدو طبيعياً أن تكون ليلى على سبيل المثل، بطلة «الباب المفتوح» للراحلة لطيفة الزيات، متسقة تماماً مع مسار حياتها، فقد منحتها الكاتبة في الرواية الأصلية صوتاً وذاتية تمكناها من بناء حياة جديدة. في مشهد عاصفة غامضة، يطبق الظلام وتقع لحظة سكون، فتنتقل أمينة الثلاثية المحفوظية وكاثرين ارنشو بطلة «مرتفعات وذرنغ» التي كتبتها اميلي برونتي عام 1847 من الغابة المحيطة ببيت السيرينات إلى حرم مسجد الحسين في القاهرة. تؤسس هذه اللقطة سمة المشهدية السينمائية التي تعتمد عليها الرواية حتى النهاية، وهو ما ينقذ السرد من السقوط في فخ التفاصيل غير الضرورية. فالانتقال من مشهد إلي مشهد يشبه المونتاج الذي يعفينا من إعمال المنطق في السؤال. حياة عاصفة لا يأتي اختيار أمينة وكاثرين اعتباطاً، فقد اختارت الموجي شخصيتين معروفتين أدبيًا، مرّتا بحياة عاصفة. فأمينة - كما كتبها نجيب محفوظ - لم تحظ بصوت خاص بها، بل كان صوتها يتسرب من عنق زجاجة صوتي نجيب محفوظ وسي السيد، لذلك لم نعرف مطلقًا مشاعرها الدقيقة مثلاً عندما استشهد ابنها فهمي، لم نعرف ما إذا كانت راضية وقانعة بحياتها مع سي السيد أم غاضبة. أما كاثرين ففقدت امكان تتويج حبها لهيثكليف بسبب أخيها الذي أصرّ على الحفاظ على التراتب الهرمي للطبقات، وجاء موتها ليبتر حياتها وصوتها، فما كان من روحها إلا أن ظلت تهيم في البراري وتنادي تماماً كالسيرينات. تأتي كل شخصية بحياة كاملة صاخبة تحتاج إلى الشرح والتعليق، فعل لابد أن يكتمل بإرادة كل واحدة منهما. لا تُعيد الموجي كتابة حياة أي واحدة منهما، بل هي تمنحهما الصوت المسلوب والقدرة علي الاختيار في حياة ثانية، وقد كان ذلك هو الهم المسيطر علي أعمال الموجي السابقة. في معنى آخر، تمنحهما الموجي مشاهد إضافية في النص الأصلي، وهي مشاهد تدفع القارئ إلى إعادة النظر في كل بديهيات رؤيته لهذه الشخصيات. وبالمثل، تحصل الشخصيتان على فرصة للتعبير عن رؤيتهما لما حدث في الثلاثية منذ ما يزيد عن الستين عاماً ومرتفعات وذرنج من حوالى قرنين. بظهور شخصيتي أمينة وكاثرين في حاضر القاهرة - 2010 تحديداً - كان لابد من ظهور شخصية تنتمي الى تلك اللحظة الآنية، فظهرت شخصية مريم- الطبيبة النفسية التي هجرت عملها وحياتها وتعاني من الاكتئاب. باجتماع الثلاث معاً، تتمكن الموجي من منح كل واحدة ليس فقط مساحة وصوتًا واضحًا، بل مساراً متميزاً يتشكل بناء على اختيار واع وإرادة حرة لا تتأثر بأي قيم ذكورية متوارثة، كما كان الحال مع أمينة، أو بأي ضغوط خاصة بالطبقة، كما كان الحال مع كاثرين، أو بضغوط الحياة اليومية القاسية في المدينة كما هو الحال مع مريم. وكما يتمكن القارئ من إعادة النظر إلى حيوات سابقة من منظور مختلف يحدث الشيء نفسه لمريم التي تراجع كل مفردات الماضي الذي كان ضاغطاً عليها - سيطرة الأم وفقد الزوج وبعض العلاقات المحكوم عليها بالفشل. ليس الأمر ببساطة التضامن النسوي، بل إنه يتعلق بالتقاء الأرواح في زمن آخر، كأنه إعادة اكتشاف لما كنا عليه في حياتنا الأخرى، كأنها دورة مستمرة لا نعيها إلا عبر التنقل بين الأزمنة، وهي حركة تمنح الروح والعقل إمكان القراءة والتفسير ومن ثم القبول. وبهذا يكتسب بيت السيرينات- الذي رأته مريم أثناء غيبوبة الضغط العالي- دلالة عالية في الرواية، فهو عمق العقل الباطن، هو مكان المواجهة، هو مكان المعرفة بدليل ما اكتسبته أمينة هناك والذي يتسم أحيانًا بالمبالغة. هو المرآة التي ترشدنا إلى الفهم، هو أكثر ما يخيفنا أن نفكر فيه. تكتسب هذه الدلالة أهمية أعلى عندما نلحظ أن الشخصيات كلها لا تجد السلام إلا عبر التداخل النفسي والزمني والثقافي، فكما تلتقي كاثرين بيوسف وأمه، تلتقي أمينة مع حفيدها، وتتصالح مريم مع نفسها. وكما كانت أمينة هي المحور الحاضر الغائب في بيت النحاسين في ثلاثية محفوظ، أصبحت المحور الرئيس أيضاً في حياة المجتمع الصغير الذي تمكنت من الدخول فيه بيسر وسلاسة. لكن الدور المحوري الذي لعبته أمينة تجلى في حياة مريم ويرجع ذلك بسبب الأمومة الفطرية لدى أمينة من ناحية، ولكونها متصالحة مع ذاتها من ناحية أخرى، فليست لديها ذرة غضب واحدة مثلاً على سي السيد، بل كان جل حزنها يرتكز على فقدها ابنها فهمي الذي كان يأتيها في الأحلام كثيرًا. السرد الدائري كانت كاثرين متصالحة مع ذاتها لكنها غاضبة من كونها غادرت الحياة بمفردها من دون هيثكليف، وهو ما كان يتجلى في الحمى التي تنتابها كثيراً، وفي قصيدة «السيدة شالوت» التي كتبها الشاعر الفيكتوري ألفريد تينيسون في القرن التاسع عشر والتي تلح عليها طوال الوقت، وجدت السلام والقناعة مع يوسف، زميلها في العمل. وتحققت أمنيتها - «شبعت من الحياة» - فكان أن غادرا معاً إلى حياة أخرى في التفجير الذي وقع في كنيسة القديسين في الإسكندرية أواخر عام 2010. وكما بدأ السرد في الحاضر من منطقة الحسين ينتهي عندها بأمينة ومريم، وتلتحق بهما فيرجينيا وولف ربما لتحل محل كاثرين؟ هكذا يتخذ السرد شكلاً دائرياً سواء من ناحية تداخل الأزمنة أو الشخصيات أو الأماكن أو الأحلام، وتتمكن الشخصيات من اجتراح الحدود بكل تجلياتها فيتحول الصمت إلى صوت والفقد إلى ثراء والفوضى العبثية إلى فهم. بهذه الحبكة- التي تُقوض التقنيات الذكورية الثابتة منذ التراث الإغريقي- تبدو سحر الموجي وكأنها تترجم نظريات النسوية العابرة للحدود والقوميات (تقوم أمينة فعليًا بترجمة خطابات فيرجينيا وولف) إلى عمل مُحكم ينهل من العالمي ولا يُغادر المحلي، بل يجمع بينهما عبر الإرادة الذاتية لكل شخصية، كما أنه عمل يُوظف الفانتازي كتقنية، لكنه لا يغادر الواقعي كمضمون. في عالم شفيف، يظهر من خلف غلالة بخور المسك الذي كانت أمينة مُغرمة به تتحرك الشخصيات بسهولة في الزمن، فتجد في كل مكان جزءاً من الروح التائهة لتقوم بصياغة خطاب نسوي مستقل.