منذ أسبوعين وعبر هذه الصفحة بالذات كتبنا حول أعاصير التقسيم والانفصال، والسودنة تضاف الى «اللبننة» و «العرقنة» و «الصوملة» و... تساءلنا: أين لبنان من كل ما يجري؟ فما زال صناع القرار أو بعضهم على الأقل في حالة بحث عن استيراد وطن من الخارج، لأن زعماء الفصائل اللبنانية عاجزون عن الجلوس الى طاولة واحدة للتفاهم أو حتى لتنظيم الاختلاف على الأقل («الحياة» 8 كانون الثاني/ يناير 2011). وفيما كانت التحليلات تتركز على تداعيات تكريس انفصال جنوب السودان عن شماله، أو ما سميناه ب «السودنة»، حتى باغتتنا «ثورة الياسمين» في تونس، وما أطلقنا عليه حركياً ب «التونسة». وهنا قفز الوضع اللبناني من جديد الى الواجهة أو ما بات يطلق عليه «اللبننة». ومن رحم الغموض الذي غلف المعادلة السورية – السعودية أو ما عرف لوقت طويل ب «السين - سين» بدأت الأزمات تنفجر، وبلغت الذروة. حتى كتابة هذه السطور على الأقل مع اعلان وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل في مؤتمر «شرم الشيخ» أن المملكة رفعت يدها عن لبنان، وان الملك عبدالله بن عبدالعزيز اتصل بالرئيس بشار الأسد من أجل التزام إنهاء المشكلة اللبنانية لكن ذلك لم يحدث. لكن الأمر الأكثر خطورة من رفع يد السعودية عن الحل في لبنان كلام الأمير سعود الفيصل من أنه إذا وصلت الأمور الى الانفصال وتقسيم لبنان، فهو انتهى كدولة تحوي التعايش السلمي بين الأديان والقوميات، والفيصل لا يلقي الكلام على عواهنه ومن هذا المنطلق تندرج المخاطر الكامنة في تصريحه. وسؤال من الأسئلة التي تتصف بها المرحلة: هل ان المملكة العربية السعودية رفعت يدها عن لبنان، أو عن سورية في لبنان؟ لقد بلغ الوضع في لبنان حد طرح التساؤل الأساسي والمحوري وهو التالي: هل إن لبنان موحد فعلياً ويجب العمل على منع تقسيمه؟ أم أن لبنان تقسم فعلياً ويجب العمل على استرداد توحيده؟ والجواب: ان لبنان مقسم فعلياً، وهو تقسيم الأمر الواقع وليس بالمعنى التقليدي للكلمة، أي بمعنى التقسيم الجغرافي. ولا يجدي نفعاً نفي هذا الواقع والتشدق بوحدة لبنان وبالعيش المشترك والسلم الأهلي، في الكليشيهات التي أصبحت ممجوجة. ومن قبيل استحضار بعض الوقائع التاريخية، علينا ان نتذكر ان الكلام عن تجزئة المنطقة وتقسيمها ليس جديداً، بل ان المستجد فيه، تطبيق الخطط المتصلة بهذا الواقع. والتاريخ خير مثال. ان مخطط التقسيم في المنطقة بدأ في لبنان مع اندلاع الحروب الأهلية في 13 نيسان (ابريل) من عام 1975. وشهدت الساحة اللبنانية أشرس أنواع هذه الحروب التقسيمية الطابع، لكن المخطط لم يكتمل في حينه، فكان اتفاق الطائف في حقبة التسعينات. لكن مخطط التفتيت والتقسيم تابع «جولته الإقليمية» فحط الرحال في العراق مع الغزو الأميركي له والنتائج الكارثية التي نشأت عن العرقنة» وها هو نائب الرئيس الأميركي جو بايدن يشرف فعلياً على تقسيم العراق الى الكرد في الشمال، والشيعة في الجنوب، والسنّة في الوسط، وهو الذي طرح مشروع تقسيم العراق ثلاثة على الكونغرس الأميركي وانتزع اعترافاً منه بتكريس «العرقنة». وفي المقابل حرصت واشنطن على مواكبة تكريس التقاسم في السودان مع استفتاء أهل جنوب السودان للانفصال عن شماله. وفيما كان الرئيس السوداني عمر البشير مطارداً من العدالة الدولية، ها هي الولاياتالمتحدة تسقط عنه هذه التهمة (المجازر الجماعية في دارفور)، مقابل «تسهيل» البشير عملية انفصال السودان. ولا ينتهي مسلسل التفتيت والتقسيم عند هذا الحدّ، فالأخطار لا تزال ماثلة في اليمن وخطط إعادة انفصال «يمن صنعاء» عن «يمن عدن»! وفي خضم أحداث الأيام والأسابيع الأخيرة المتفجرة مرت بعض الأخبار والمواقف في شكل خاطف ومن دون التوقف عندها. ومن ذلك ما حدث في الدوحة حيث ألقت وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون خطاباً الى العالم العربي عبر ممثليه في مؤتمر العاصمة القطرية حيث وجهت الانتقادات اللاذعة الى الحكومات العربية، ومشيرة الى ان دولهم تواجه خطر الغرق في عاصفة الاضطرابات والتطرف، ما لم يعمدوا الى تحرير أنظمتهم السياسية واستقرار اقتصادات دولهم. وهي شككت في «ان الرسالة التي بعث بها الرئيس باراك أوباما لم تلق آذاناً صاغية في المنطقة»، وهي من أجل ذلك مصابة بالإحباط، وتابعت الخطاب – العظة...! «ان مؤسساتكم تغرق في الرمال في كثير من الأماكن وبأشكال متعددة، وان الشرق الأوسط الجديد والديناميكي الذي نراه يجب أن يتعزز على أساس أصلب ويتجذر وينمو في كل أنحاء المنطقة». وقدمت السيدة كلينتون أمثلة حية على الفساد المستشري في دول المنطقة وقالت ما حرفيته: «من أجل الحصول على ترخيص لا بد من دفع رشى الى الكثير من الأفراد. وعند العمل ينبغي عليك دفع رشى أيضاً، ولكي يستمر عملك لا بد من رشوة الأفراد أيضاً، وفي محاولة تصدير بضائعك لا بد من أن ترشو البعض ومن ثم فعندما ترشو الجميع لن تكون هناك شركة مربحة». ولم يتمكن أي مسؤول عربي من الرد على انتقادات كلينتون. وفي العودة الى الوضع اللبناني المأزوم إشارة الى الآتي: أولاً: من الذي أسقط أو أبطل مبادرة التفاهم بين سورية والسعودية؟ الإجابات كثيرة ومتعددة. فالأستاذ وليد جنبلاط على سبيل المثال اتهم «القوى الظلامية» بذلك، وكأنه يريد أن يقول ان الدخول الأميركي على الخط هو الذي أفسد هذه المساعي. الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد اتهم «قوى شيطانية» بعرقلة مساعي المصالحة السورية – السعودية في لبنان. وبقطع النظر عن تحديد هوية «القاتل» الحقيقي للمساعي التوفيقية، فإن هذا التطور له تداعيات بالغة الدقة والحساسية والخطورة على الساحة اللبنانية. ثانياً: اعلان الرياض بشخص الأمير سعود الفيصل عن رفع اليد عن لبنان، أو عن المساعي الهادفة الى احتواء احتمال لجوء البعض الى تفجير الجهة اللبنانية، حدث في الوقت الذي كان رئيس وزراء – وزير خارجية قطر الشيخ حمد بن جاسم بن جبر آل ثاني ووزير خارجية تركيا أحمد داوود أوغلو يتابعان مساعيهما بالتشاور مع القيادات اللبنانية وسبق للقادة الذين التقوا في دمشق (الرئيس الأسد – الشيخ خليفة – أردوغان) أن اتفقوا على تقويم المسعى السوري – السعودي. وهنا السؤال الذي يطرح: هل إن تطورات الأيام الأخيرة قضت على كل مساعي ومحاولات «تقريب» حل الأزمة اللبنانية! واستطراداً... ومن هنا الى اين، هل الى سلوك «التدويل»؟ ثالثاً: وماذا عن الأطراف الداخلية اللبنانية، هل يقتصر دورها على انتظار حل سيأتي اليهم من الخارج وهذا ما يؤكد نظرية فشل اللبنانيين في حكم أنفسهم بأنفسهم، وأن الأوساط السياسية اللبنانية قاصرة عن لمّ شمل الصفوف في هذه الفترة الإنعطافية من مصير لبنان. رابعاً: لم تُعرف حتى الآن الجدوى الفعلية من تأجيل الاستشارات النيابية حتى الاثنين المقبل، وما إذا كان أي تغيير سينعكس على ضمان «أكثرية ما» لترشيح الشخصية التي ستتولى تأليف الحكومة العتيدة. ومع التشديد على شخصية رئيس الحكومة (الرئيس سعد الحريري أو غيره)، فالمهم، بل الأهم أزمات ما بعد التكليف، إذ ان تأليف الحكومة العتيدة لن يكون بالأمر السهل على الإطلاق. إضافة الى ذلك إذا ما تمكن لبنان من اجتياز عقبات التكليف والتأليف فهناك الاتفاق على مضمون البيان الوزاري... وعلى كيفية احتواء تداعيات نشر القرار الاتهامي الذي سيصدر عن المحكمة الدولية. على أن الأمر المؤكد ان لبنان يواجه أزمة سياسية ووطنية لن يكون التوصل الى حلول لها في مستقبل منظور، الأمر الذي يوجب على كل القيادات أو من تبقى منها الارتقاء الى مستوى خطورة الوضع والمسؤوليات الناشئة عنه. إذ لا يُعقل ان يكون لبنان مالئ الدنيا وشاغل الناس في الخارج، وليس هناك في الداخل من أقر باستطاعته قيادة سفينة الوطن الى شاطئ الأمان. لكن محاذير الفشل بالغة الخطورة ويصعب وضعها تحت السيطرة الى أن تظهر بوادر الحلول. وبانتظار أي تطور، فإن ممارسة الحد الأدنى من الحس الوطني تحتم على الجميع تجنيب الوطن ومن عليه مخاطر التأجيج واللجوء الى اللغة الغرائزية. فالبطولة الحقيقية تكمن في التهدئة وليس في التصعيد. وهنا لا بد من التذكير بنكبات مهنية ترتبط مباشرة بالدور الإعلامي الذي تحتمه ظروف المرحلة. وإذا لم يكن في مقدور الإعلام حل الأزمة على سبيل المثال، فعليه لا يجب صب الزيت على النار، لمزيد من الاشتعال. والأمر المهم هنا في هذا المجال الابتعاد قدر المستطاع عن اللجوء الى اللغة المذهبية والطائفية المقيتة، فلبنان يستحق اكثر وأفضل مما يعامل... وكذلك اللبنانيون، ورأفة بأعصابهم المنهكة. ان رياح الانفصال والتقسيم تعصف بشدة، والوطن أمانة في عنق جميع مواطنيه، ولا تجدي تصنيفات الوطنية أو الطائفية في إنقاذ الوطن واقفاً منتصباً يواجه الصعاب، وصعوبات هذه المرة تختلف عن كل ما سبقها. ومرة أخرى اطرحوا السؤال المحوري على أنفسكم: هل لبنان موحد فعلياً ويجب العمل على منع تقسيمه! أم إن لبنان مقسم فعلياً ويجب العمل على استعادة وحدته. * كاتب وإعلامي لبناني